د. يوسف توفيق
يبدو أثر السنين واضحا على وجه با المكي، قرابة الاربعين سنة وهو يغلق ويفتح، يفتح ويغلق، يغلق ليجد ما يفتح، ويفتح من اجل ان يغلق، مازال يكتري بيتا في حي شعبي، ويستقل دراجة هوائية قديمة ذهابا وايابا ..يتذكر جيدا وصية والدته: عرق المحابيس صعيب يا وليدي ..اياك ان تقبض منهم فلسا واحدا، لا تكن انت والقدر سيفان مسلطان عليهم ..ها السخط ها الرضا. يبدو انه فضل رضا والدته، دون ان يتجنب سخط المجتمع. حراس كثيرون جاءوا بعده اشتروا سيارات وتطاولوا في البنيان، اما هو فبقي كما هو، الزمن.. فقط الزمن من فعل فعلته فيه. كان يدعوني في فترة الاستراحة لنتقاسم معا كسرة الخبز وحبات الزيتون التي يجلبها من بيته وهو يحدثني عن السجن واخباره التي لا تنتهي وعجائبه التي لا تنقضي. يحكي لي عن ابنه الوحيد الذي توقف مساره الدراسي مبكرا، كثيرا ما حمل ملفه الى الادارة لعل وعسى ان يخلفه بعد ان يغادر الى التقاعد. ينوي الآن ان يدخله إلى الجيش.
هو رجل محبوب من طرف السجناء، يعاملونه كأب. يستشيرونه في كل كبيرة وصغيرة ..وهو يساعدهم ما وجد إلى ذلك سبيلا.. يهمس إلي قائلا: السجين انسان لطيف..يكفي ان تنظر إليه بحب لكي يبادلك حبا بحب..ويضيف: نحن هنا مجرد أصحاب فندق، لا يهمنا كيف جاء النزلاء ولا من أين، لا يهمنا أن ننبش في ماضيهم أو أن نحاسبهم على ما اقترفوا ..هم عندنا أمانة ..هل تفهم؟ أومئ برأسي مؤيدا واتناول حبة زيتون واتبعها بشربة ماء ..
امس وقعت حادثة غريبة، هاج أحد السجناء المحكومين بمدة طويلة وأحدث ضجة كبيرة عندما طوق عنق احد الموظفين، وجعله يخور بين يديه مثل ثور . جاءت حمائم السجن، حاولت ثنيه بكل ما اوتيت من اساليب الاقناع، وهبت صقور السجن دون ان تغير من الامر شيئا، وجاء المدير واعدا اياه بأن ينظر في كل مطالبه وان يساعده في ثني الادارة عن قرار ترحيله ولكن دون جدوى ..كان صراخه يزداد وهو يضغط على رقبة الموظف محاولا كسرها ..عندما جاء با المكي ونظر في عينيه لم يستطع السجين المقاومة، بدا مثل اي رجل لطيف ومسالم واطلق سراح الموظف ثم جثا عند ركبتي با المكي. السجين انسان هش، لا ينسى من يعامله بالحسنى، من يشعره بانسانيته، من يساعده على قضاء عقوبته دون ازدراء ودون قسوة..من يربت على كتفه بين الفينة والاخرى ..من يصيخ اليه السمع وهو يحكي حكاياته الحزينة..من لا يوقظه عندما يحلم بالحرية ..نصف كيلو من السردين تدخله على السجين يجعله يتذكرك مدى الحياة .. يجعله يتحول بين يديك من نمر شرس الى قط في منتهى الوداعة ..با المكي كان في تلك الامسية بطلا خارقا .. تنفس المدير والموظفون الصعداء بعد أن كاد السجين أن يحول ليلتهم إلى ليلة ليلاء
سلمت يداك، وصف رائق و مائز يغوص في أعماق شخصية أبا المكي ، ويسبر أغوارها بجمل موحية تغني عن الاستطراد و الإطناب ، و طاقة سردية رائعة و قوية تذكرنا بعظماء الروايات العالمية. بورك فيك.
نريد المزيد من القصة
كنت مبدع و رائع ايها الدكتور