أمين زهري
تمهيد :
إن الحديث عن نشأة اللغة العربية لا يفصلنا ـ كما يعتقد البعض ـ عن نشأة اللغة كمفهوم مستقل له تاريخه المختلَف في قضايا تطوراته وأسرارها، ولعل الرجوع إلى أصل اللغات هو أقوى دليل يفسر العلاقة الجدلية بين لغة معينة لها وجودها المستقل في التطور التاريخي و اللغة الأصل؛ أي صوت الانسان الأول الذي حُطّ جسده فوق الأرض، فوسيلة التعبير عن العواطف والمقاصد والأفكار تتشعب ـ إضافة إلى اللغة ـ إلى حركات ينتجها الانفعال، وإشارات تؤدي المعنى المقصود منه، وإذاك، تكون هذه التعابير أحيانا أبلغ في الإيضاح وإيصال المرغوب من الصوت باعتباره “آلة اللفظ” (١)؛ ولأنه كذلك فهو لا “يتهيأ لجميع الناس على السواء، وذلك راجع إلى أحوال الحنجرة وعضلات الفم وإلى حال اللسان من الصغر والكبر والدقة والغِلَظِ وإلى حال الأسنان وتركيبها وترتيبها” (٦)، وفي هذا السياق يقول الجاحظ:” ليس للروم ضاد، ولا للفرس ثاء، ولا للسرياني ذال…” وفي نفس الاتجاه نجد ذلكم الاختلاف في الأصوات عند الأمم؛ فالعين والغين الواضحة والحاء الواضحة أصوات اللغات السامية. أما الكاف الفارسية توجد في اللغات السامية والآرية معا… (وفي هذا المبحث آراء كثيرة ). والحديث عن الصوت والإشارة هنا ليس الغرض منه أن أدخل مبحثا آخر يحملنا بعيدا عن نشأة اللغة عموما واللغة العربية في الوجه الخاص، بل هي إشارات سريعة لمفهوم اللغة التواصلية صوتيا و إشاريا ـ مع تميز الصوت في أغلب المواقف الحياتية ـ قبل البداية في التفصيل التاريخي/العلمي للغة العربية في علاقتها مع التطور السوسيوتاريخي للغة.
(١) البيان والتبين ١: ٧٧ ـ ٧٩
(٦) البيان والتبيين ١ : ٥٨
النشأة واللغة
مع تعدد اللغات الذي وصل إلى ستة آلاف لغة ولهجة (في الدراسات الحديثة) يطرح السؤال الذي أرق اللغوين ولم ينتج إلا أجوبة متضاربة ينفي إحداها الآخر ـ حتى الآن ـ. كيف نشأت اللغة ؟ ، وللبحث في ثنايا هذا السؤال التاريخي،الفلسفي،اللغوي… يجب أولا تعريف النشأة واللغة كأساسين للسؤال؛ إذ هي أي ـ النشأة ـ الحياة و الإيجاد والتَّربية(١)، والمراد بنشأة اللغة: أول حدوثها وأصل بدايتها. واللغة “أصواتٌ يُعَبِّر بها كل قوم عن أغراضهم” وجمعها لغى ولغات(٢)، وهي الألفاظ الموضوعية للمعاني(٣).
نشأة اللغة البشرية/الإنسانية :
كانت العلاقة ـ ولا تزال ـ بين الإنسانية و البشرية “علاقة عموم و خصوص مطلق”(٤)، وإذاك، فكل إنسان بشر وليس كل بشر إنسانا، وعليه فإن عمق العلاقة بين بادي البشرة والكائن العاقل، الضاحك، الناطق… يفرض تشعبا و اختلافا في دراسة ظواهر الإنسان الشامل في مفهومه؛ إذ لا تسلم اللغة هي الأخرى من ذلكم الاختلاف الفكري في دراسة نشأتها، و من هذا المنطلق أيد البعض من العلماء هذا البحث وعارضه البعض الآخر إلى درجة تحريمه في مواقف كثيرة “باعتباره موضوعا غير ظني ولا يمكن التحقق من صحة وقائعه”(٥)، ولهذا الرأي الثاني قوة يثبتها عجز الباحثين ـ حتى الآن ـ في إعطاء تفسير علمي دقيق لنشأة اللغة، إلا أنه كان ظالما في تحريم البحث العلمي الموضوعي، الصارخ والفاقع.
جاء في ما آنف مفهوما الاختلاف والتشعب في دراسة نشأة اللغة، ذلك أننا نجدنا أمام نظريات عديدة أهمها:
ـ نظرية الإلهام والتوقيف
ـ نظرية محاكاة الأصوات
ـ نظرية الاتفاق والمواضعة والاصطلاح
(١) معجم المعاني الجامع
(٢) معجم المعاني الجامع
(٣) القاموس المحيط
(٤) د. عدنان ابراهيم ـ مطرقة البرهان وزجاج الالحاد
(٥) د. أحمد شامية ـ مقال : نشأة اللغة الانسانية الأولى : أهم النظريات أو الفرضيات
نظرية الإلهام و الوحي و التوقيف :
تذهب هذه النظرية إلى أن الله تعالى أوقف الإنسان الأول على مسميات الأشياء و أعطى له جهازا يعبر به عن وحيه ـ جل جلاله ـ ، ومن أهم القائلين بهذا الرأي الفيلسوف اليوناني القديم هرقليط (480 قبل الميلاد)، وحديثا قال به ‘لامي’ و الفيلسوف ‘دونالد ‘، أما عند المسلمين فقال به الجاحظ وأبو الحسن الأشعري، وأحمد بن فارس الذاهب إلى أن لغة العرب توقيفية؛ ذلكم أن لغة الإنسان الأول كانت العربية وأن آدم عليه السلام هو أول من كتب الكتاب العربي والسرياني، وفي نفس هذا الطرح قال السيوطي أن لغة آدم في الجنة هي الضاد.
(يرى علماء العبرية من جهة أخرى أن لغتهم هي أم اللغات، فأيدهم في هذا التوجه النصرانيون…)
أدلة النظرية والانتقادات التي وجهت لها:
عند الغرب:
يرتكز علماء الغرب في تأييدهم للنظرية على نص ورد في العهد القديم من الإنجيل : ” و الله خلق من طين جميع حيوانات الحقول ، و جميع طيور السماء ، ثم دعا آدم ليرى كيف يسميها . وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الانسان . فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ، ولطيور السماء و دواب الحقول ” .
لكننا عندما ندرس عمق النص نجده داحضا للنظرية، فآدم هنا هو الذي وضع أسماء الأشياء ولم تكن وحيا إلهيا…
عند المسلمين :
يحتج علماء المسلمين في قوله تعالى ”وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” (البقرة، الآية الثلاثون )، وعليه فإنهم يعتقدون بأن الله جل جلاله علم آدم أسماء الأشياء بكل اللغات، ليتفرق أبناؤه بعد ذلك في ربوع الأرض يتحدث كل واحد منهم لغة معينة. ولكن ألا يدل هذا على أن الأسماء ـ كل الأسماء ـ حتى اليوم كانت معلومة عند آدم؟ وإن كان هذا صحيحا، فهل آدم علم الغيب ليعرف مسميات الأشياء في العصور القادمة ؟
نظرية محاكاة الأصوات :
” و لو لم يتنبه على ذلك إلا بما جاء عنهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها ، كالخازبار لصوته، و البط لصوته و نحو ذلك قولهم حاحيت، و عاعيت، هاهيت، إذا قلت حاء، عاء، هاء ، وقولهم : بسملت، هللت، حوقلت. كل ذلك و أشباهه إنما يرجع اشتقاقه إلى الأصوات و الأمر أوسع “، هكذا يقول بن جني في الخصائص (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني)؛ ومنه نستنتج أنه كان أول القائلين ـ نقلا ـ بهذه النظرية قبل ماكس ميلر الذي غالبا ما تنسب إليه أفكارها القوية والعميقة في منهجها التحليلي العلمي، ذلكم أنها تربط أصوات الطبيعة بتكون اللغة عند البشر الأوائل، فالأصوات المسموعة كدوي البحر وحنين الرعد… هي الملهم الأول للإنسان من أجل اكتشاف قوته في التقليد ومن ثم اكتشاف جهازه القابل لنطق الأصوات والتحكم فيها حسب الارادة الفكرية، وإذاك، فقط طور هذا الكائن العاقل تلكم الأصوات ليبدع بعد ذلك في رسم تقاسيم لغته…
لقد جاء آنفا أن النظرية قوية وعميقة في منهجها، وهذا راجع إلا تجانس العلوم المختلفة في هذا الطرح، من مثير واستجابة في علم النفس السلوكي عند جون بي واطسون، وعلم النفس التربوي في فرعه علم النفس/الطفل؛ إذ تثبت جل الدراسات أن الطفل في أول مراحل اكتشافاته الصوتية يبذأ دائما بمبدأ المثير والاستجابة في تقليد أصوات الطبيعة كمواء الهرة ونباح الكلب… ويذهب أبعد من ذلك لنجده يسميها بأصواتها ليقول : (مياو مشيرا إلى الهرة و هاو إلى الكلب… ).
رغم قوة طرح النظرية السابقة إلا أنها لا تسلم من النقد اللاذع ـ كباقي النظريات ـ من لدن أتباع الاعتباطية في العلاقة بين الدال والمدلول، إذ أين تتجلى المحاكاة في كلمة كتاب و ورقة مثلا ؟ وهنا نجد أن الصوت لا علاقة له مع المعنى المتاح للكلمة.
إن الإشارة إلى أن بن جني دعم هذه النظرية لا تنفي تقلبه في الرأي في كتاب الخصائص، فتارة يؤيد المحاكاة وتارة يقول بالتواضع والاصطلاح ثم الإلهام، ( وهذا ما أشار إليه عبد الرحمان البوريني في كتابه : اللغة العربية أصل اللغات كلها )
نظرية الاتفاق والمواضعة والاصطلاح:
تؤكد هذه النظرية على أن اللغة ابتدعت بالتواضع، ومن أهم القائلين بها الفيلسوف اليوناني ديموكريط وأرسطو والمعتزلة ثم آدم سميث الإنجليزي.
وعليه، فإن البشر الأوائل اجتمعوا فحددوا ـ حسب هؤلاء ـ أسماء الأشياء وتوافقوا عليها لتصبح ركائزا للتواصل والتخاطب بين أفراد العشائر. وجاءت هذه الفكرة قوية في بداياتها إلا أنها لا تتوافق والعقل الانساني المنطقي في تحليله، إذ ما جاء به أصحاب النظرية هو تجاوز كبير للمراحل التاريخية الانسانية، فعندما نتحدث عن التوافق والمواضعة فإننا أمام مفهومين تاريخيين فلسفيين متأخرين زمنيا ظهرا مع ظهور الدولة ككيان مستقل يحكم الأفراد بالتعاقد، وإضافة إلى ذلك يُطرح السؤال المحير الذي يحسم بشكل قاطع مع أفكار هذا الطرح : كيف اجتمع أولئكم البشر وبأي لغة اتفقوا وتحاوروا ؟
لا تزال اللغة محط غموض، وعليه، فإن الباحثين لم يستطيعوا حتى الآن إلا تسجيل محاولات لا بأس بها في تفسير ظهورها وتطورها السوسيوتاريخي؛ فنجد من يقول بالالهام والتوقيف، ومن يقول بالمحاكاة، ومن يقول بالمواضعة والاصطلاح، إذ لم تقف المحاولات في التفسير عند هذه النظريات المطروحة فقط بل تجاوزتها إلى دراسات أخرى يمكن البحث فيها ؛ كنظرية فندريس الذي يرى أن اللغة كانت لدى الانسان الأولى انفعالية محضة (١) ، ونظرية النشوء والتناسل،و ترى أن اللغة نشأت بالطفرة و بشكل تلقائي ، فتفترض أن اللغة نشأت متكاملة في لحظة معينة ثم أعقبها التوالد والتكاثر (٢).
(١) (٢) : د. أحمد شامية ـ مقال : نشأة اللغة الانسانية الأولى : أهم النظريات أو الفرضيات
اللغة العربية ؛ محاولات تأريخ بدايات نشأتها.
يتضح من كل ما آنف أن التأريخ للغة في مفهومها وتاريخها العامين يكاد يشكل المستحيل في تجاوز عقبة الموضوعية في البحث المتطرَّق له؛ ومنه، فإن التخصص لم ينف هذا الغموض الذي يحيط بالتأريخ اللغوي أو بفلسفة تاريخ اللغة….
إن الدارس/الباحث يوضع أمام مفارقات تاريخية تجعله جامعا للأدلة الواضحة أثريا فقط، ومنها يحاول وضع فرضيات تمر قبل نضوجها عبر منهج علمي دقيق كما سماه فلاسفة المعرفة التاريخية كـ” ريمون آرون ” مثلا، وإذاك، فإن هذه المطروحات ظلت ـ وستبقى ـ محاطة بالتأويل الشكي رغم مرورها عبر التنقيب المنهجي الموضوعي/العلمي؛ إذا، كيف تطرق علماؤنا المتقدمون إلى مسألة تاريخ اللغة العربية؟ وما أهم الحجج التي صادفوها في بحثهم ؟
لا بد علينا أن نشير ـ قبل وضع آراء الباحثين ـ إلى أننا دائما أمام ميتافيزيقا اللغة؛ فكأننا نبحث في اللامعقول أو اللاملموس ـ في أصله ـ ، ولهذا نجد التضارب في الآراء بين مؤرخي لغتنا الأم الذين تطرقوا إلى دلائل ملموسة لم تزل العموض المطروح؛ إذ تبقى النقوش القديمة أهم ما جاء به هؤلاء من حجج في تأريخهم.
آراء في أول من تحدث باللغة العربية:
رأي محمد بن سلام الجمحي : الذي قال :
“قال يونس بن حبيب: أول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ أخبرني مسمع بن عبدالملك أنه سمع محمد بن علي يقول ـ(لا أدري رفعه أم لا، وأظن قد رفعه) ـ أول مَن تكلم بالعربية ونَسِي لسان أبيه إسماعيل عليه السلام”(١)
ويقول القرطبي في تفسيره : واختلف في أول من تكلم باللسان العربي ، فروي عن كعب الأحبار أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه السلام …
و قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن يعرب بن قحطان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها. ويقال: إنه أول من تبحبح بالعربية الواسعة، ونطق بأفصحها، وأوجزها، وأبلغها. والعربية منسوبة إليه مشتقة من اسمه. وهو الذي ذكره حسان بن ثابت الأنصاري في شعره الذي يقول فيه:
تعلمتمُ من منطق الشيخ يعرب // أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
(١) طبقات فحول الشعراء . ٩/١٠
لقد شكل أصل اللغة العربية علامة استفهام بارزة جدا في الوسط الدارس و الباحث ، إلا أن ما سبق يطرح عدة إشكاليات يمكنها أن تنفي كل ما جيء به؛ فكيف تحدث العربي الأول ؟ و هل صنع هذه اللغات من وحيه ؟ و ما اللغة التي تحدث بها قبل العربية ؟ ومنه، فإننا أمام مئات الإشكالات التي سوف تتفرع عن هذه الأسئلة التي لا تحمل أجوبتها تحقيقا علميا موضوعيا.
بعد هذه المفارقات التاريخية لم يتبق لنا إلا طريق واحد يمكننا من خلاله الاقتراب من أصل لغتنا العربية و تحديد بدايتها ـ بشكل تأويلي ـ أقوى من الرأي النابع من النزعات القومية والايديولوجية…. وهذا الطريق يحملنا إلى البحث في أقدم ما وصلنا من هذه اللغة أثريا/ملموسا.
الشعر الجاهلي :
“إن أقدم نصوص وصلت من الشعر الجاهلي في تلك الفترة التي سبقت الإسلام، والتي عُرِفت بعصر الجاهلية ـ لا تتعدى مائة سنة تقريبًا، لذلك اعتبر كثير من الدارسين أن فترة الجاهلية هي فترة عاش فيها العرب قبل الإسلام بمائة أو مائة وخمسين عامًا؛ أي: إن هؤلاء الشعراء الجاهليين ـ الذين نُقِل إلينا شعرُهم ـ كانوا يعيشون أول القرن السادس الميلادي؛ أي: قبل الهجرة بمائة سنة تقريبًا” (١)
لقد كان العربي حبيب لغتة؛ إذ يتغني بها في كل مواقف حياته شعرا، ذلك أن الشعر تربع على عرش الفنون آنذاك، فكانت القبيلة تقيم الولائم و تحرر العبيد إذا نبغ منها شاعر.
ومن هذا الولع الكبير أقامت العرب مواسم الشعر المعروفة بالأسواق كعكاظ و ذي المجاز ومجنة، ولعل التناشد والنقد الذي كان يحمله الموسم الشعري أبرز مظهر يجسد الهيام العميق الذي جمع العربي بلغته التي علق شعرها الأجمل على أستار الكعبة وسماه بالمعلقات.
في إطار التطرق إلى أقدم ما وصلنا من الشعر العربي، يُطرح السؤال الجوهري : كيف وصلنا شعر امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وعنترة بن شداد… ؟
إن ظهور الإسلام جعل الدعوة إليه أهم هدف يحمله المسلمون، فانشغلوا بالفتوحات الاسلامية التي حملت انتصار الاسلام في جل الربوع، لكنهم لما رجعوا إلى شعرهم لم يجدوه مكتوبا ، فتناقلوه عن طريق الرواية الشفوية، إلا أن بعض المستشرقين شككوا في صحة نسب الشعر الجاهلي، ومن أبرز هؤلاء المشككين مرجليوث، و جاء بعده العربي طه حسين الذي ذهب إلى أن الشعر ـ كل الشعر ـ يرجع إلى فترة ظهور الاسلام فكتبه الرواة المسلمون من أمثال: حماد الراوية وخلف الأحمر… وهذا ما سمي في النقد العربي ( قضية الانتحال ) التي لا يمكننا التطرق لها الآن لضخامة قيمتها و مساحتها الشاسعة بحثا وآراءً.
(١) مقال النقوش و أولوية اللغة العربية / أ. د. أحمد عارف حجازي
رغم هذا الطعن الذي جاء به طه حسين وأضرابه تبقى حقيقة وجود الشعر الجاهلي قبل الاسلام راسخة وفاقعة الملامح، وقد وصلتنا القصيدة الجاهلية عن طريق الرواية بعد ظهور دين العالمين، سواء أكانت منقوصة أوعكس ذلك، ليبقى الشعر ديوانا للعرب و معينا في معرفة مرحلة مهمة من تاريخ العربية قبل الاسلام، وقد انقسم هؤلاء الرواة إلى مدرستين كبيرتين في الرواية ـ على غرار النحو ـ و هما :
مدرسة الكوفة: وفي أعلاها المفضل الضبي.
مدرسة البصرة: وفي أعلاها حماد الراوية.
النقوش :
رغم التأريخ المقارب للشعر الجاهلي باعتباره أقدم إبداع موصول إلينا، تبقى مشكلة البداية مطروحة، ولذلكم نجد الباحثين في اللغة العربية ـ إضافة إلى الشعر الجاهلي ـ يتدارسون ويفسرون (تاريخيا و معنويا ) النقوش العربية القديمة؛ وهي نصوص منقوشة على الحجارة اكتشفت حديثا في شمال الجزيرة العربية، ومنه فإنها هي الأخرى تبقى عاجزة عن وضع تقاسيم البدايات وإيضاحها لعيوبها التي لخصها المستشرق الألماني “فيشر” في بحث عنوانه ” اللغة العربية قبل الإسلام ” في ” نقص الحركات الدالة على المعاني؛ إذ يسكت نوع الخط المكتوب به، ويقف عاجزًا أمام كثير من المعلومات التي نحتاجها عن اللغة التي يُعبر بها بتلك الكتابات المنقوشة على الصخور”
يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في الصفحة السابعة بعد المائة من كتاب ” تاريخ اللغات السامية ” ” لم تكن الكتابة منتشرة في بلاد العرب، بل كان لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا القليل النادر، فكانوا من أجل ذلك لا يُدوِّنون أخبارهم العظيمة، ومنتجات قرائحهم البارعة، فطبيعي ألا يصلَ إلينا ما نستطيع به أن نَعرف لهجاتهم، ونستكشف أصل لغتهم إلا بقايا ضئيلة من هذا النادر القليل؛ مما يجعل مهمة الباحث في هذا الموضوع شاقة صعبة، ويضطره إلى أن يحتاط في استنتاجه، ويبذل أقصى ما يستطيع من الجهود؛ ليصل إلى نتائج بريئة من الخطأ جهد الطاقة والإمكان، لذلك كان لهذه النقوش التي كُشِفت في شمال الحجاز شأنٌ عظيم وقيمة كبيرة في نظر الباحثين”
إن الفضل في اكتشاف هذه النقوش يرجع ـ للأسف ـ إلى العلماء المستشرقين، وأهمهم : ليتمان و بلينوس و بطليموس؛ ولأنها وجدت في شمال شبه الجزيرة العربية كان أغلبها بعيدا عن الخط العربي مع وجود نقوش قليلة تشابهه للتأثر باللغة الآرامية السائدة آنذاك…
إن النقوش العربية المكتشفة وجدت فيما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي، وقد قسمت كما جاء في مقال ” النقوش و أولوية اللغة العربية” للدكتور أحمد عارف حجازي إلى ثلاتة أقسام مستندا في ذلك كتاب تاريخ اللغات السمية؛ إذ قال في الجزء الأخير من مقاله :
” تنقسم النقوش إلى ثلاثة أقسام :
النقوش الصفوية:
وسُمِّيت بذلك نِسبةً إلى مكان وجودها في شمال شبه الجزيرة العربية في المنطقة الواقعة بين جبال الدروز وتلول أرض الصفاة؛ أي: في جنوب سوريا وشمال فلسطين، وجنوب شرق لبنان، وبها نُقوش قد تُقرأ من اليمين للشمال، وأخرى تقرأ من الشمال لليمين، وأخرى تُقرأ من أسفل إلى أعلى.
النقوش اللحيانية:
وسُمِّيت بذلك نِسبةً إلى قبائل لحيان التي استوطنت شمال شبه الجزيرة العربية وغربها، وفي شرق سيناء، وبها نقوش تقرأ من اليمين للشمال، وأخرى تُقرأ من الشمال لليمين.
النقوش الثمودية:
وسُمِّيت بذلك نِسبةً إلى قبيلة ثمود التي كانت تسكن جنوب مكة إلى تهامة العسير، ونقوشها موجزة جدًّا، حتى ليكاد المعنى يَخفى على القارئ تمامًا، ويصبح عرضة لتأويلات شتى”