مقدمة:
يعد الموظف العمومي أحد الثوابت الأساسية للمؤسسات الإدارية التي تحظى بدور محدد في مجال تحديث الخدمات الإدارية وترسيخ مفهوم الإدارة في خدمة المواطن وليس مراقبته[1]. لذلك عني المشرع بتنظيم هذه الفئة الإدارية بقانون يعرف بالنظام الأساسي للوظيفة العمومية[2] فحسب هذا الأخير يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة[3] وعليه فإن الموظف يبقى تابعا للإدارة التي ينتمي إليها من حيث وضعه القانوني وهو بذلك في حالة قانونية ونظامية إزاء الإدارة ذلك ما نص عليه الفصل الثالث من نفس النظام.
فبالنسبة للتأديب يبقى الموظف تحت السلطة المباشرة للإدارة التي عينته[4] عند إخلاله بواجباته المهنية مع مراعاة مجموعة من الإجراءات أقرها القانون[5] لصالح الموظف وأخرى أفرزها القضاء[6] من خلال تجربة عقود من الاجتهاد أخذت فيها المنازعات المتعلقة بالوظيفة العمومية حصة الأسد[7].
وتعد المنازعات المتعلقة بالرقابة على ملائمة العقوبة مع الخطأ في مجال الوظيفة العمومية أحد أنواع القضايا التي عالجها القضاء الإداري المغربي بعدما كانت ردحا من الزمن تدخل في إطار السلطة التقديرية للإدارة.
[1] – Houat, (H.), « Éléments d’une redéfinition de la relation administration administré au Maroc, Revue des études juridiques économiques et sociales », n° : 09 1996,p. 87.
[2] – الظهير الشريف رقم 1.58.008 بتاريخ 24 فبراير 1958. الجريدة الرسمية عدد 2372 بتاريخ 21 رمضان 1377 الموافق ل 11 أبريل 1958. ص: 914.
[3] – الفصل الثاني من الظهير السابق
[4] – الفصل الخامس والشؤون من نفس القانون “تختص بحق التأديب السلطة التي لها حق التسمية”
[5] – يبقى أهمها المرور عن طريق اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء التي تقوم بدور المجلس التأديبي وأخر أقرتها الفصول 67 إلى 72 و75 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية.
[6] – Voir Ben Saâd (M.), Le contentieux disciplinaire dans la fonction publique Marocaine, Mémoire de DESA, Faculté du droit Oujda 2006-2007
[7] -وصل عدد القضايا المسجلة بقسم الإلغاء في مختلف المحاكم الإدارية والمتعلقة فقط بقطاع التعليم إلى 1202 لإلى غاية 08/07/2006، وزارة التربية الوطنية، مديرية الشؤون القانونية والمنازعات، دراسة إحصائية و تحليلية لمنازعات قضاء الإلغاء.
فالمقصود بمفهوم الملائمة أو التناسب هو أن “لا تغلو السلطة المعنية بتحديد الجزاء في اختياره، ولا تركب متن الشطط في تقديره وإنما عليها أن تتخير ما يكون على وجه اللزوم ضروريا لمواجهة الخرق القانوني أو المخالفة الإدارية وما يترتب على اقترافها من آثار، وما فيه القدر المتيقن من معقولية لردع المخالف، وجزر غيره عن أن يرتكب ذات فعله. ومن هنا تكون ضوابط الجزاء والعقاب موضوعية ويعتبر بالتالي كل تجاوز لهذه الضوابط تزايدا واستبدادا ينبغي رفضه”[1].
فالقاضي وهو يبت في عنصر التناسب فإنه بذلك يراقب افتقاد التعامل السليم من طرف الإدارة[2]، ويراقب ما إذا كان سوء تقدير رجل الإدارة من الجسامة بحيث يبدو واضحا لكل ذي حد أدنى من العقل والتبصر[3].
بمعنى آخر إن أي سلطة تأديبية معتمدة على معيار المنطق لا يمكنها إصدار هذه العقوبة الصارمة[4]. إن مبدأ التناسب ما بين الجزاء والمخالفة التأديبية يقتضي الموازنة بين مبدئي الفاعلية والضمان في الجزاءات التأديبية إذ يجب على الإدارة ألا تعاقب الموظف بأشد مما اقترف[5].
للإحاطة بكيفية تعامل القاضي الإداري المغربي مع هذا الشق من المنازعات ارتأينا دراسة الموضوع عبر التطرق إلى مرحلتين متباينتين، تميزت الأولى باعتبار الملاءمة ضمن السلطة التقديرية لإدارة (المبحث الأول)، بينما عرفت المرحلة الثانية ضم هذا النوع من المنازعات ضمن رقابة القاضي الإداري (المبحث الثاني).
[1] – محمد باهي أبو يونس، الرقابة القضائية على شرعية الجزاءات العامة، دار الجامعة الجديدة للنشر، 2000، ص: 113.
[2] – Xavier (P,H), le contrôle de la proportionnalité dans les jurisprudence constitutionnelles et administratives françaises, Economica, p., 365.
[3] – عصام بن جلون،» السلطة التقديرية للإدارة وقضاء الغلو « ، المجلة المغربية للاقتصاد والقانون، عدد 19، 2004، ص: 197.
[4] – Didier (B.)& Autre, le contentieux de la fonction publique, Edition, NEMESIS, 1992, p., 276.
[5] – -عبد اللطيف العمراني، « القضاء الإداري المغربي ومراقبة الملاءمة في مجال التأديب « ، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عشر سنوات من العمل القضائي للمحاكم الإدارية بالمغرب، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 47، 2004، ص: 118.
المبحث الأول: السلطة التقديرية الواسعة في ملائمة العقوبة مع الخطأ في مجال الوظيفة العمومية
قبل الحديث عن موقف القضاء في مجال الملاءمة عبر استحضار مجموعة من الأحكام (المطلب الثاني) نرى انه من الأجدر تسليط الضوء على مفهوم السلطة التقديرية (المطلب الأول).
المطلب الأول: مفهوم السلطة التقديرية للإدارة
يمكن تعريف السلطة التقديرية الممنوحة للإدارة بكونها التفسير الذي يمكن هذه الأخيرة من القول بأن الفعل الذي أقدمت عليه هو من درجة الملائمة مع الأحداث التي تملي هذا الفعل، مؤدى ذلك أن السلطة التقديرية تعني بالنسبة للإدارة التي تتمتع بها، حرية إعطاء المعنى الذي تريده للقرارات التي تتخذها[1]، الإدارة هي التي تقرر وحدها ماإذا كان الإجراء المزمع اتخاذه ملائما أو غير ملائم وبعبارة أخرى هي التي تزن ملائمة قراراتها للظروف الواقعية[2].
لقد عرف الفقيه الفرنسي “أندري دي لوبادير” (André Dé Laubadère)، السلطة التقديرية مميزا لها عن السلطة المقيدة بأن هناك سلطة تقديرية عندما تكون الإدارة في مواجهات وقائع معينة، حرة في اتخاذ هذا القرار أو ذاك، أما السلطة المقيدة فتظهر عندما تكون ملزمة في مواجهة هذه الوقائع باتخاذ قرار معين يكون مسلكها قد تحدد مسبقا بالقانون وأضاف كذلك انه في حالة السلطة التقديرية يكون لرجل الإدارة حرية اختيار الحل الأكثر ملاءمة فيكون هو قاضيا لملاءمة إجرائه أما في الحالة الثانية فمهما تكون نظرة رجل الإدارة الشخصية لملاءمة الإجراء، فإنه يتعين عليه اتخاذ ما هو ملزم به قانونا[3].
[1] – Zohir (J.M.), Droit administratif, 1999,sans Edition, p, 44.
[2] – ذ الحسين سيمو، » السلطة التقديرية للإدارة ورقابة القضاء الإدارة عليها « المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 13، 1995، ص: 32..
[3] -أورده عبد الله الإدريسي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس كلية الحقوق الرباط 1983، ص: 156 وما بعد.
تبقى الإدارة من حيث سلطتها التقديرية -باعتبار الجهاز الذي يوكل إليه، عمليا تنفيذ القوانين- مرتبطة بما يقره المشرع فهذه السلطة التقديرية تتسع بغياب تشريع يحدد للإدارة ماتقوم به أمام كل حالة أي بغياب ما يسمى الاختصاص المقيدcompétence liée وتضيف بعكس ذلك، وبذلك فإن بين القاعدة القانونية والسلطة التقديرية علاقة جدلية يتحدد وجود العنصر الثاني فيها بمدى صلابة ومرونة العنصر الأول[1]، ويبقي رسم الحدود بين العنصرين من مهام القضاء الإداري الذي يراقب مجال ممارسة السلطة التقديرية وتختلف هذه الرقابة من حيث قوتها باختلاف المجال المتروك لرجل الإدارة.
بذلك فهي مجال مستقل تتصرف داخله الإدارة وهو مجال قد يضيق وقد يتسع تبعا لدقة القاعدة القانونية، فتارة تكون القاعدة القانونية على درجة كافية من الوضوح والدقة وتكتفي الإدارة بتطبيقها كما هي وتارة أخرى ترى بان هذه القاعدة تحتاج إلى تأويل أو إلى تفسير أو حتى إلى استثناءات هذا في حالة وجود القاعدة القانونية أما في حالة غيابها فان هامش التقدير وحرية التصرف لدى الإدارة تكون اكبر[2].
إن السلطة التقديرية، ليست سلطة تحكمية أو تعسفية وإنما هي سطة قانونية تخضع، مثل سائر سلطات الإدارة للرقابة على مشروعيتها ولاتتحقق هذه المشروعية طبعا إلا بالتأكد من أنها قد استهدفت المصلحة العامة وهو الدور المنوط بالقاضي الإداري[3].
وبالتالي فإن مفهوم السلطة التقديرية لا يتعارض مع مبدأ الشرعية، بل هي في خدمته بحيث أن ممارسة السلطة التقديرية لا تعنى مخالفة القانون بقدر ما تعنى تعويض غيابه فقط. لذلك تبقى هذه السلطة إرادة غير مقيدة، تمارس بحرية تامة ضمن إطار عام يحكمه المبادئ العامة للقانون.
[1] – ذ.أحمد أزغاري » السلطة التقديرية ودورها في إنشاء القرار الإداري « ، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 8-7 ص: 30-31.
[2] – -بوعزاوي بوجمعة، »”الاتجاه الحديث في رقابة القاضي الإداري على ممارسة السلطة التقديرية للإدارة « ، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، نفس العدد السابق، ص: 148.
[3] – محمد الاعرج »السلطة التقديرية للإدارة في مجال نقل العاملين بمرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية « ، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد 57، 2007، ص: 47.
يتبع
كتب ولد زايو