قلم – عبد الكريم زايو الجزء الاخير
بدل كل هندام يوحي له بالبدائية والتخلف، شعرطويل مفتول مسدل على رقبته، و أصابع ضاقت درعا بخواتم مرصعة بالذهب، أما أذرعه وسيقانه فقد حطت عليها كل فنون الوشم الأوروبي والصيني، لقد غاص وتوغل في أغوار هذه الحضارة، وارتمى بين أحضانها، ممسكا ذاته كل الإمساك كي لا تقع في محظور تعاسة ومتاعب الماضي.
انمحت عنده كل أساليب الدارجة والأمازيغية التي طالما كان حديثه بها غاية في الروعة والجمال، غاية في الإبداع ،مجازا وإيجازا..
إنه يرى في الرومية جزء منه، لا ينفك عنها حياة ومماة ، فهو لم يرزق معها بأولاد، لكن لا مانع ولا مشكلة، حياة الموضة والعصرنة أفضل من هذا، فقد استبدل هذه النزعة أن اقتنى كلبين بفراء ناعمة من أرقى أسواق باريس، يقبلهما صباح مساء، لا تراه في الشارع إلا وهو يحمل (بلاك) بين ذراعيه،و (وايت) يجره تارة، وتارة هو المجرور..
لم يعد يعرف للأموال أرقاما، فالرزق الوفير يغدق عليه من كل جهة، وحانته الضخمة تستقطب كل أجناس الدنيا. ذات مساء من أماسي “الويكاند” وكعادته حمل الزوج المخلص الهدايا النفيسة لزوجته” الوفية”
ــ زوجتي العزيزة، هل أكمل البستاني تشذيب الشجيرات؟
ــ البستاني! لا، لم يحضر منذ مدة.
ــ لكن، ومن هو الرجل الذي خرج من الحديقة قبل قليل؟
ــ إيــــه..إنه صديقي الوفي يا زوجي، صديق الطفولة والدراسة، وقد غاب عنا كثيرا، أتدري… لقد أكمل دراسة الهندسة في أمريكا، لذلك زارني حاملا لي هدايا نفيسة.
ــ ماذا؟! صديق!
وعندما لاحظت على وجهه الاستغراب والدهشة اقتربت منه قائلة: « Ah mon mari,tu veux pas me comprendre,c’est un ami intime ,jamais retourner àl’ere de décadence. »
مسكين بوشعيب! اعتاد على كل شيء إلا هذه،لم يكن يعلم أنه قد يكون لهذه الحداثة المزعومة أنياب يمكن أن تهوي به في مكان سحيق.
تذكر أدب الخلق هناك، فلم يصرخ في وجهها ولم يتفوه بكلمة تخرم بندا من حقوق المرأة، بل ألقى بالهدايا على الأرض وخرج للتو متمتما: ” الملعونة..المسخوطة.. ماذا تقول الزنديقة..بنت الحرام؟!…” لكن…ما أسعدها صدمة! وما ألذ وقع المصيبة على نفسه! لقد أحدثت انكسارا مفاجئا في الزمن أرجعه عنوة إلى ذكريات الماضي البعيد، تسللت شفرات إلى ذاكرته تفك عقال المخيلة، فإذا به يتذكر ذلك المثل الذي طالما همس به جده في أذنه(اللهم التبن والراحة ولا الشعير والفضيحة).
جلس على الكرسي الثابت في الحديقة العمومية، اختلى بنفسه وهو وسط الزحمة تراوده تلك الأفكارالأصيلة التي كان ينبذها، بل كانت في اللاشعور محتاجة إلى من يوقظها. إنه الآن يتابع باهتمام تلك الزوجة وزوجها وهما يداعبان ولديهما في غاية الفرح والحبور.منظر كهذا كان كافيا لإنزال الدمعات وراء الدمعات ، لقد ارتعش ارتعاشة جعلته يتذكر ولديه وزوجته فشرع يصرخ معانقا الشباك الخلفي للكرسي مناديا بأعلى صوته كالمجنون ” ولدي حماد.. بوشتة ،ولدي.. زوجتي…”
“سأغادر، سأرحل… لكن كيف السبيل للوصول إليهما؟ ربما قد قضوا جميعا.. ماتوا جوعا، بل لا أتذكر حتى اسم الدشر كما هو،كيف لي بذلك وقد مرت علي هنا خمسة وعشرون عاما… !” عزم صاحبنا على العودة ، ولن يثنيه عن ذلك شيء وإن لم يبق على وجه البسيطة إلا تلك الرومية الملعونة.. وقبل أن يغادر كان لزاما عليه أن يأخذ من شعره الطويل وأن يتحرر من كل الخواتم ، كان لا بد أن يغيرمن ذلك الهندام الذي ظل مسجونا عبره فترة طويلة من الزمن … حزم الحقائب واقتنى ما لذ وطاب والشوق كل الشوق يطوي ما بعد، والحنين كل الحنين يسري نورا سرمدا. شوق لمعانقة رمال بلاده..ما ألهبه! وحنين لمؤانسة أهله وأولاده..ما أدمعه!
حلقت الطائرة في الأجواء، وفي جوفها قلب يخفق خفقة فرح كلما عانق حمادا، ويخفق خفقة إخفاق كلما مات حماد، مات حماد عدة مرات ، لكنه لم يمت!…حماد كان له عظيم الأثر بينما بوشتة تركه بوشعيب وهو يتكبد عناء الخطوات الأولى. وفي الطائرة كان شريط الذكريات يمر سريعا كالبرق، سريعا سرعة المكوك الذي يمتطيه، شريط حياته هذا لم يكن تراتبيا، فيتذكر أصداء من طفولته ليعرج على لمحات من شبابه ويتراخى مرة أخرى نحو براءته ثم ينتقل بدون فواصل إلى حكايته مع الحضارة هناك …
هاهو الآن في “المسيد” بقشابته البالية التي انكمشت جوانبها السفلى،واندثرت معالم لونها تحت وقع سياط شعاع الشمس صيفا وخريفا ،يجلس مع “المحاضرة” ، مقابل ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، صاحب الفلقة والقفة الأربعائية، والعصا المقوسة التي يصل عنفوانها إلى كل ذي حركة زائدة، قريبا كان ، أم في آخر الحلقة.وتتعالى أصوات الصبية عند إغفاءة الشيخ التي ما دلهم عليها إلا سقوط العصا من يده متبوعة بالسبحة والذباب الذي يتجول في محيط الفقيه دون رقيب ينهره. وعندما يعلو اللغط ، تستيقظ العصا الملهبة فتسيح فوق الرؤوس لا تفرق بين من الجاد واللاهي لتذيق الصغار ألوانا من الضرب المبرح والنقر المؤلم.
وفي الجهة اليسرى تجلس بنت الجار، هي، هي التي زفت إليه في ذلك اليوم المشهود…فكل منازل “الدشر ” انتصبت فوق سطوحها رايات بيضاء كقلوب أصحابها…أصدقاؤه الشباب يقترعون فيمن يكون “وزيرا” لمولاي”السلطان”، الكل فرح ومنتش بهذه المناسبة…هي “الغالية” التي ساقها قدر الله مع أمها إلى نبع الماء في ذلك اليوم ،هي “الغالية” التي توارت خلف أمها وهي تمشي على استحياء…هي ” الغالية” التي أردته قتيل الحب العذري…حيث كانت النظرة صباحا والخطبة مساء، أما العرس فبعد ثلاثة أيام مباشرة.
ذكريات جميلة لا يعكر انسيابها إلا وقوف الرومية بين الحين والآخر ماثلة أمامه بشعرها الذهبي ولباسها القزمي فتنهال عليها أصناف من السب والشتم، فهي لم تكن سوى رمز البشاعة والقذارة. وهاهو بين جدران سميكة ،لا يتحرك، يعتبر المكان زنزانته.. معلم كم تمنى أن يموت من ساعته، فهو وإن تحرر من قشابة المسيد، فالفلقة هي الفلقة، وما زالت نظرة مدرسه من وراء مكتبه الخشبي تحمل كما هائلا من الرعب والخوف،أما اللعب فمن الممنوعات داخل أسوار المدرسة… لذلك فهو يغتنم كل عطلة ليقتسم و عشيقته الصغيرة أجمل الأحاسيس بينما تصنع أحلى العرائس وهو يبني أرفع القلاع والدور بالأحجار الصغيرة، ولا يفتح بابا أو يغلقه حتى يشاورها.
كم تمنى أن يرجع ذلك الطفل، ذلك البريء الذي لم تشغله دنيا ولا آخرة، ولم يعكر صفوه قوت يوم ولا تدبير شغل.
قهقهة من صاحبنا سمعها جيرانه الركاب، لقد تذكر أسبوعه الأول عند الأعاجم حين كان يتناول تلك الأكلة اللذيذة ليكتشف في الأخير أنها مخصصة للقطط، فقد كان يقتنيها دون أن يعرف أن للحيوانات أيضا نصيب في أكبر دكاكينهم.
هو الآن مبحر في الصفحة التاسعة من صفحات ذاكرته ليجد فيها مرتعا خصبا يشع بأنوار الأمومة والأبوة، تذكر شطحاته وشغبه داخل المنزل بينما أمه التي ماتت بعد زواجه بثلاث سنوات، تلقيه بنعالها وحين لا تصيبه تهرول خلفه وهي تتوعده بالضرب والسلخ، أما صاحبنا فمختبئ لا يهتم بكلام أمه، لكن ما إن تهدده بإخبار أبيه حتى يجري نحوها معانقا إياها “أماه! عافاك.. لا تخبري أبي، (والله ما نعاود)”،لكن يتساءل دائما: لماذا أخاف أبي وهو الذي لم يضربني يوما؟! يتذكر مع أبيه مواسم الحرث، تلك الأيام الجميلة،ما أسعده من رجل صغيروهو يكلفه أبوه أيام السوق بالحرث! أي رجل صغير أصبح! يقبض بيده الصغيرة بالمحراث الخشبي وهو يعمد إلى تغليظ صوته يحث الدابه علىالمسير،في حين تتحسس يده الأخرى ذقنه باحثا عن “زغبة” بكرت بالبزوغ.
صدى الطفولة ما زال حيا لم يمت في ذاكرة بوشعيب، لم تكن أمواجه إلا راقدة راكدة في طيات تجاعيد الحداثة، لتنبعث من جديد …
انتهت رحلة ذكريات صاحبنا مع هبوط الطائرة على أرض وطئها أجداده …وفي المحطة الصغيرة، يسيح بصره في الوجوه يتفرسها لكنه لم يتذكر أحدا.
ــ سيدي، أريد الذهاب إلى “دشر” أ،أ …،
ــ أفهمك، لكن كم ستدفع؟ فحقائبك تبدو ثقيلة. وهو يتساءل مندهشا: لكن إلى أين يمشي هذا الغريب؟!
ــ كل ما ستطلبه، يأتيك.
وفي الطريق كانت كل المعالم قد تبدلت وانمحت كثير من الآثار التي كانت تأخذ مكانها في حياة صاحبنا.
يا إلهي! من فعل هذا بقريتنا؟! ما هذه الكارثة التي حلت ؟ ماالذي رحلهم؟ أهو طاعون قطع أوصالهم؟ أم ريح عاصف شتتت شملهم؟!!! لا، لا، ربما أخطأت العنوان.. لكن هذه هي خروبتنا، وهذا هو الواد الذي يفصل بين دارنا ودار جدي، وهذه هي آثار الأسوار التي كانت تحيط بمنزلنا.
هاله منظر ما رأى، وما صار إليه الدشر، لم يبق إلا هذه الأطلال تبكي ماضيها، وهذه الأشجار ترثي دانيها…. ارتجفت قدما بوشعيب ولم يقوى على الوقوف، فجلس عل حجرة مسندا كلتا يديه على ركبتيه وقد وضع راحة كفيه على جانبي وجهه، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ضاع كل شيء ، لم يعثر على أي شيء.
رفع رأسه قليلا ، صوب بصره نحو ذلك السور الذي ما زالت الأحجار المتناثرة من حوله لم تبتعد عنه وكأنها تحن إلى الاصطفاف مرة أخرى…أسرع إليه وكأنه سمع أباه الذي رحل إلى ربه قبل زواجه بشهور، يوم كان يساعده في بنائه، “حاضر أبي”.. “ناولني بني تلك الحجرة”.. “خذ، أبي، ضعها في الجنب يا أبي …”.. “أوليدي ، أمك تنادي من وراء البيت.. “حاضر، أمي، ماذا هناك؟”..”بني!أسرع إلى أبيك بهذا الشاي والخبز، لعله متعب جائع، فليسترح قليلا ، فمشاغل الدنيا لم ولن يكملها أحد”…
رجع المسكين إلى الجلوس مرة أخرى شاحب الوجه.. لم يجد حمادا ولا بوشتة ولا زوجته(الغالية)… وبينما هو كذلك، مصوب وجهه نحو الأسفل إذ بحوافر دابة ينتهي صوتها أمامه..
ــ السلام عليكم…سيدي ماذا تفعل هنا؟.. هل تبحث عن شيء؟.. هل انقطعت بك السبل؟.. سيدي، لماذا لا تجيب ؟..لا شك أنك غريب عن هذا المكان! يسأل الرجل الراكب، وعندما لا يجد جوابا يصمت قليلا ليردفه بسؤال آخر، وهو بين سؤال وآخر يحدق في الغريب، بين أناقة جذبت انتباهه وحالة حزن آلمت قلبه.. وبعد لحظات ترقب، يرفع بوشعيب رأسه شيئا فشيئا، فإذا برموش عينيه قد التصقت بدموع الندم والاشتياق، ثم ينظر إلى صاحب الأسئلة وهو يرد بصوت خافت ومتقطع : وعليكم السلام ، بينما إحساس غريب قد اخترق جسمه وتسلل إلى قلبه.
ــ حسنا، لابأس عليك سيدي، هل تقبل أن تنزل ضيفا عندنا؟ سيفرح بك مولاي، إنه يحب إكرام الضيف، يحب كل عابر سبيل.
حمل الشاب الحقائب على البغل بعد أن ركبه بوشعيب، وسارا في الطريق البعيدة، لقد كان الحديث بينهما قليلا في حين ظل الصمت حديثا داخليا يغري باختلاس القسمات. ـ
ـ بني! من هذا الضيف؟
ــ مولاي، عابر سبيل، أولعله يبحث عن شيء.
ــ يا مرحبا بزائرنا،مقام مريح لك عندنا، تفضل، تفضل.
أحس الغريب بطمأنينة غمرت قلبه،طمأنينة عوضت له بعض الآلام والأحزان. لقد كان حديث الشيخ المسن في السهرة سياسيا بحكم أنه كان المنسق بين القبائل لمواجهة المستعمر، وكلما حاول الفتى الاقتراب من هموم الرجل ومعرفة سبب بكائه في ذلك المكان إلا وانفلتت فرصته أمام قوة حديث مولاه، فالشيخ لا يعنيه من يكون الغريب ولا أهداف مجيئه ، ولا شيء من هذا كله.. وفي الصباح بينما أرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتروي بها تلك الأرض التي ازينت بشتى أنواع الربيع، شكر بوشعيب الشيخ وأثنى عليه، بعد أن ترك كل حقائبه هدية له على كرمه وجوده وحسن ضيافته،وودعه في حين استمر مع الشاب وقد أبهره حسن أدبه وروعة أخلاقه.
ـ بني! سمعتك تقول للشيخ مولاي.
دمعت عينا الفتى ، ولم يتحدث إلا بعد أن مسح دموعه:”أمي رحلت عن الدنيا وقد تركتنا صغارا أنا وأخي، وقد تكفل بنا هذا الشيخ الجليل الذي لن ننسى فضله مدى الحياة.”
ــ يرحم الله أمك، و… يستمر الشاب في الحديث:” كانت أمي تسلينا ونحن نسأل عن أبينا، بأنه سيعود قريبا، سيعود بعد أيام،لكن عندما كبرنا أصبحنا ندرك معنى الأيام والأعوام،فتساءلنا مرات ومرات…لماذا لم يعد أبي يا أمي؟وكان الجواب واضحا هذه المرة: أبوكما يا أبنائي، غادر ذات مرة كعادته بحثا عن عمل، ولم يعد منذ ذلك الحين، وقد قاسيت الكثير من أجلكما ، وقد وصلني خبر هجرته إلى وجهة غير معروفة وأظنه الآن قد رحل رحلة أبدية عن هذه الدنيا… اقشعر جلد بوشعيب وهو يسمع حكاية، ما أشبهها بحكايته! وما أكثر من يتألم مثله في هذه الدنيا!
وبينما الفتى يتحدث ناداه الشيخ: لا تنسى يا بني، فهذا المساء سيصل أخوك بوشتة.
ــ يا إلهي! أأنا في الحلم أم ماذا؟! ما هذه الأسماء! ،يتمتم الغريب بهذه الكلمات بينما قسمات وجهه تقاسمته ألوان الغرابة والدهشة والحنين والترقب..
ــ حالا مولاي، قلت لك سيدي الفاضل، كل ما أعرفه عن أبي هو اسمه، اسمه الذي كان على شفتي أمي صباح مساء، كانت أمي تقول وهي متيقنة أنه قد قضى نحبه في تلك البلاد : يرحمك الله يا بوشعيب، بوشعيب… توقفت أنفاس صاحبنا،وارتجفت قدماه وهو يصيح بأعلى صوته: لا، لا، لم أمت ، لم أمت، أنا بوشعيب، ما زلت حيا، ابني حماد ! حماد ابني..
ــ ماذا دهاك يا رجل؟ أتعرف اسمي… بوشعيب الحساس، التصق التصاقا بحماد وهو يقول: أين بوشتة؟ أين أمك “الغالية”؟ في تلك اللحظة أدرك الفتى أن الماثل أمامه هو أبوه حقا، وتذكر بكاءه المرير أمس عند أطلال البيت القديم، ولم يحس إلا ورأسه على صدر أبيه وقد دبت السعادة والفرحة في كل عروقه.. ثم اشتد العناق واختلطت الأصوات، أصوات تمزج بين كل أسماء الأسرة، تمزج بين كل لذائذ الأفراح، بينما سقط ما في أيدي الناس، ووقف الشيخ ووراءه أهله وبعض الجيران مبهورين ، وهم ما بين دمعة ضاحكة وصيحة بهيجة. لقد أصبح المكان ذا قدسية كبيرة عند الصغير والكبير، ورمز حياة لكل من يبحث عن بصيص أمل …
رابط الجزء الأول
https://www.zaiocity.net/?p=16205
رابط الجزء الثاني