متاهات في غابة النفوس – عمود أسبوعي حصريا على زايو سيتي
قلم – سعيد صغير مربي ومرشد إجتماعي بألمانيا
على ضفة وادي صغير في مدينة ألمانية هادئة، تقضي أَنجْلا خريف عمر حافل بالذكريات. تعيش وحيدة مع القطة ميمي. كل شيء في بيتها يبث ذكرى غالية من حياتها المليئة بالمتناقضات.
الخزانة والطاولة اقتنتهما من مال ورثته عن أبويها، الَّلذان تركاها يتيمة في سن السادسة. كفلها عمها الذي كان يشغِّلها في توزيع الحليب على سكان القرية، عكس أقرانها الذين كانوا يقضون وقتهم في اللعب وزيارة الملاهي و السينما. تلك أيام طفولة و يتم وضعف، أسفرت عن نضج مبكر، قادها إلى الإلتحاق بشباب هتلر، حيث إشتغلت في مراقبة الطيران. على الجدار صورة لفتاة جميلة و رشيقة في الزيِّ العسكري، تشهد على أيام الجِدِّ و الحزم و القوة و الإنظباط. أيام سعيدة قضتها مع رفيقاتها في الخدمة العسكرية، دون أن تفقه حرفاً واحداً من النازية.
تتذكر اليوم الذي نزحت فيه إلى المدينة الكبيرة الصاخبة. تحمل حقيبة صغيرة ولا تملك إلا ماركاً ألمانياً واحداً. كانت بداية من لاشيء، تمكنت بعدها من الحصول على شغل و كراء بيت متواضع. إشتغلت نادلة في مقهى، جمالها ورشاقتها وحسن عشرتها هي سر نجاحها في هذا العمل..’’ كانوا ينادوني المدفأة الصغيرة أيام الشتاء’’.. تقول أَنجْلا بإفتخار. كانت تقطف لها من بين الزوار، الرجل الوسيم الرشيق الذي ينال إعجابها، لتتبادل معه الدفء في أيام الشتاء الطويلة الباردة. حبلت بإبنها البكر الذي ربته لوحدها. والده أدى الكفالة المادية كل شهر لمدة 18 سنة.. ’’ متعة دامت دقائق أدى عليها 216 شهراً’’.. تقول أَنجْلا ماكرة. جواب إبنها كان ثقيلاً على نفسها، إنتحار بطئ جراء الإدمان على المخذرات الصلبة. إبنتها لم تتعرف على والدها، كان أجنبياً و عاد إلى موطنه. وحيدتها تعاقبها بإختفائها مباشرة بعد أن إعتمدت على نفسها. لم تعد تتصل بها و غير مبالية بوجودها.
إبتاعت أَنجْلا بيتا صغيراً، إختارته لقضاء آخر أيام حياتها. تعتني بأمورها بنفسها، رغم العجز و المرض، غير مبالية بنصائح الجيران. ترفض إقتراحهم في أن تبحث لها عن معين يساندها في تعويض النقص الناتج عن تقدمها في السن وعن العجز الذي آلت إليه. تناضل بحزم و قوة وشراسة، من أجل حقها في تسيير أمورها الداخلية بكل حرية ، دون تدخل أيّ كان، مستعينة بالنصوص القانونية، التي تحفظ لها الحق في إختيار مكان عيشها و تسيير أمورها كما شائت، ما دامت لا تضر بنفسها و بالآخرين. شائت الأقدار أن تسقط يوما أثناء صعود السلم في بيتها. نقلت إلى المستشفى. تبين للمراقبين أن هذه السيدة لا يمكن أن تُترك لوحدها عرضة للمرض و العجز و الشيخوخة، تقضي أيامها الأخيرة وحيدة في صمت مميت. إقترح المرشد الإجتماعي نقلها إلى دار العجزة مباشرة بعد إسترجاعها لعافيتها. رفضت أنجلا هذا الإقتراح وتصدت له كاللبؤة الجريحة، متمسكة بحق العودة الى بيتها. هذه المرة كان الضعف الجسدي والنفسي إلى جانب ضعف نسبي في الإدراك سبباً وراء هزيمتها في معركة الإستقلال و الحرية، ضد جهاز يضم أطباء و ممرضين، إلى جانب خبراء في علم النفس و الإجتماع والمستشار القانوني. قرروا بالإجماع الزج بها في دار العجرة، وهم على يقين أن هذا القرار في صالح أَنجْلا ، التي جردوها من أعز ما تملك، وهي حرية الإختيار و حق التصرف. هذا و عينوا مقدماً للرعاية يعتني بشؤونها بالنيابة.
أَنجْلا جالسة على جانب سريرها الذي بالكاد تقوى على مغادرته. يتكفلون برعاية جسدها، أما نفسها فوحيدة، ليس لها رفيق إلا من طيور، تأتي إلى شرفة حجرتها لتقاسمها وجباتها الغذائية. القطة ميمي لا يمكن أن تسكن إليها لأسباب لا تفهما أَنجْلا..’’ ميمي لقيت مصيراً يشبه مصيري، لقد رموها في مأوى الحيوانات ’’.. تقول أٌنجْلا في حسرة. وبما أن دخلها لا يكفي لأداء مصاريف العناية و السكن في دار العجزة، وجب عليها أن تبيع بيتها، لتغطي بثمنه مصاريف الشيخوخة الباهضة. هذا يعني أن الدار يجب أن تفرغ على آخرها، ولكن الي أين بالأدوات والأثاث الذي جمعتها في أيام عيشها الطويلة؟ ..’’ لقد طلبوا مني أن أعيّن الأغراض التي أتعلق بها كي يحضروها لي هنا، و بالفعل عينت ما تذكرته، لكن بيتي يأوي تاريخ حياتي.’’. تقول أَنجْلا في إستياء.
طبقوا حكم الإعدام في حق ماضي أنجلا. أفرغوا بيتها و ألقوا بمحتواه في القمامة. ’’إنهم أتلفوا كل ما جمعته طوال حياتي، أتلفوا ما كان يذكرني بوالديّ و بأبنائي، لقد جردوني من تاريخ حياتي و وئدوا ذكرياتي ثم تركوني في وحدتي و إحتراقي، أنتظر الموت وما هو آتٍ’’
saghir@web.de
الأولي – شديد العقاب
https://www.zaiocity.net/?p=17949
الثانية – جمال فاطمة
https://www.zaiocity.net/?p=18807
الثالثة – الحمار السعيد
https://www.zaiocity.net/?p=19457