قلم – عبد الكريم زايو
الجزء الثاني من القصة
وبينما لا تسمع في “الزودياك” إلا همسا، يتذكر بوشعيب الزوجة والصبية الذين تركهم ممددين نائمين ،لا شك أنهم يبكون ، فهم لا يعرفون وجهة أبيهم ومصيره.
في اللحظة التي يتناهى إلى مسمعه حديث أحدهم وهو يتذكر عديد أعماله: من نبش للقبور بحثا عن كنوز القدماء، وكتابة للطلاسم إرضاء للزبناء: فمنهم من يريد أن يسقط حبيبته في أول نظرة، ومنهن من تريد أن يصبح زوجها حمارا تركبه، فلا يخطو إلا بأمرها ولا يتوقف إلا بإذنها، وأخرى تبحث عن زوج بعدما طال بها مقام العزوبة والعنوسة، فهي تتمنى لو تتزوج جنيا على أن تبقى نتوءات الزمن تأخذ من خانة الجمال في وجهها شيئا فشيئا.
فهم بوشعيب كلام الرجل، فهم أن الناس في طلب الرزق مذاهب، فهم بوشعيب الذي لم يأكل إلا حلالا أن هذا المشعوذ عملة نادرة في صياغة الخرافة بين الناس.
ــ يا شباب! هاهو ضوء الضفة الأخرى يظهر، استعدوا، فنحن على مقربة من اليابسة، كونوا يقظين! وماهي إلا لحظات حتى همس الجميع : وصلنا.. وصلنا.
ــ هيا أسرعوا، اقفزوا! مع السلامة، لن أراكم إلا وأنتم تجوبون شوارع بلدتكم بسيارات فاخرة، ولن أسمع عنكم إلا وقد استبدلتم أكواخكم بفيلات فارهة…هون الله عليكم، إلى اللقاء. كان هذا آخر كلام سمعه من الباترون.
تفرق الجميع كجراد منتشر،وراح بوشعيب يبحث عن مكان آمن حتى بزغ نور الفجر. لم يترك التهم تحوم حوله، لم يظهر أبدا بمظهر مهاجر وطئت قدماه المدينة لأول مرة..بوسامته استطاع أن يصنع لنفسه هنداما لا يختلف كثيرا عن باقي الناس.. كان ذكيا في اختيار هذا الأسلوب، فهو لا يكثر من الالتفات يمنة ولا يسرة، وإن أبهرته الحضارة والبناية والتنظيم…وهو يحدث نفسه من داخل نفسه فتظهر بين الحين والآخر بعض اختلاسات الابتسامة على وجهه: “وسيم معدم، من الحمار للطيارة… واه ياودي يا بوشعيب! من موقف البؤساء إلى حديقة الأمراء… !الآن يا بوشعيب تستطيع أن تمشط وأنت تمشي، فكل الواجهات زجاجية، لن تحتاج بعد اليوم إلى تلك المرآة الملعونة التي ما أعطتك يوما صورتك الحقيقية.. آه ما هذا العالم وما هذه الدنيا! ! ! حتى الكلاب يا بوشعيب! لها شأن عظيم، انظر، انظر! ما ترى كلبا دون رفيق، لقد ألفت النظام والانضباط مثل أصحابها تماما، أما كلابنا فقد ملأت شوارعنا وهي تعيث في القمامات فسادا.”
ضبط صاحبنا إيقاع حياته بإيقاع المجتمع الجديد، بدأ أول عمل من خلال مساعدة بعض العجزة على حمل متعهم وسلعهم مقابل ما تجود به جيوبهم، وهاهو يكتسب الثقة والاحترام شيئا فشيئا.
” يا الهي! مابال تلك المرأة الجميلة تنظر إلي؟! أنا الفقير المسكين الذي لا أملك إلا هذه الملابس القديمة التي عفتها ضلوعي.. إيــه، والله إنها لتبتسم، لكن مع من؟ ــ نظر خلفه عله يجد عشيقها، لكن لا أحد ، أرجع بصره نحوها فإذا هي تقصده بيدهاــ يا شعايب! احذر، لعلها تكون شرطية لمحت في تصرفاتك ما يميزك عن غيرك من (الأسوياء)” لم يصدق وهي تأخذه بيده والرجفة قد أجهدته وأخذت منه كل مأخذ…أحس بدفء وطمأنينة حين سمع منها كلمة(مرياج)، فهي الكلمة الوحيدة التي فهم معناها من خلال حديثها.
أدخلته الكنيسة وصاحبنا مشدوه لا يلوي على شيء إلا أن يهز رأسه في اتجاه عمودي يعلن به “نعم”، اكتملت الطقوس بينما بوشعيب متوتر من ذلك الرعب الذي يحدثه المكان …
ما أسعدك يا بوشعيب! فيلا من أفخم الفيلات، سيارة لم تخطر على بال ولو حلما، نسي العذابات، ونسي المعاناة، نسي كل ذكرى مؤلمة…
استمرت حياته على منوال الترف والأبهة، وزوجته الرومية الفاتنة تنهره كلما سمعته ينطق عربية أو يتذكر شيئا من بلده. انسلخ عن كل شيء أصيل، يجد صعوبة في الرجوع إلى الماضي طوعا وكراهية، عادت نفسه تعاف كل مورود عربي،نسي المسكين أصوله وجذوره.
لم يعد بوشعيب ذلك الرجل اللطيف ، ذلك الرجل الذي يحزنه كل موقف مؤلم، بوشعيب اليقظ الحساس أصبح بوشعيب المتكبر المتعجرف.
يتبع
رابط الجزء الأول