قلم – عبد الكريم زايو
صياح الديك أيقظه،توضأ فصلى فرض ربه..
حمل المرآة الصغيرة المخدوشة، ثم تحين فرصة تثبيت مقدمة رأسه في ركن من أركانها، لكن قبل أن يتم تسريحة الشعر التي أحبها ووالفها مذ كان صبيا في حجر أمه، نظر يمنة إلى الصبية وقد أخرجوا رؤوسهم من الغطاء الخشن الوحيد الذي يغطيهم، وفي المقابل تلك الزوجة التي قاسمته الحلو والمر.
نغمات الأنفاس الهادئة لتلك الأجسام الصغيرة تملأ البيت عبيرا ملائكيا.
خرج بوشعيب كعادته؛ متختلا يمشي على أصابع قدميه وهو يتخطى بعض الأواني، يريد ألا يزعجهم.. يريد أن تستمر الأنفاس في الانسياب دون كدر. وفي رحبة يصطف مع الرفاق ، مسندا ظهره على الحائط ينتظر الفرج، ونسمات الفجر العليلة تضفي على المكان سكونا عابرا، وهمسات أصوات ثنائية تتناسب إيقاعاتها وتنفس الصبح الجميل.
يمد رجليه مرة ثم يمسكهما مرة أخرى وأمامه أداته التي لا يعرف إلا بها، لا قيمة له إلا بحضورها، أداة من شدة التصاقها به ولزومها له تركت على راحة يديه ندوبا وخدوشا تكاد تجرح من صافحت .
…طلعت الشمس ، ودبت الحركة في الشارع المقابل . أحس بدوار.. لعله الجوع،أخرج من جرابه قطعة خبز سوداء ملفوفة في منديل، أعطى شطرها للصاحب بالجنب… وهو يمضغ كسرة الخبز مر به رجل أنيق بربطة عنق ذكرت صاحبنا بالأبهة والشرف،نظر إلى الفأس الممدد أمامه قائلا :”ما أقبحك وما أشقى صاحبك ! شتت الله شملك، لم توردني إلا الألم والمعاناة والذل والمهانة،انظر إلىالقلم الذي يحمله الرجل، كم هو خفيف وزنه ، عظيم شأنه، كم هو مرتاح صاحبه،سعيد طالبه!”
نظرات غريبة يتقاسمها أصحاب “الموقف “،وياله من موقف! تتلخص فيه جميع أوجه المعاناة: منهم من لم يذق طعم العمل منذ أيام، ومنهم من يريد أن يفني عمره وصحته في أي عمل، لكن لم يجد ..وآخرون يسحب الوقت من تحت أقدامهم وتفكيرهم هناك،إلى تلك الأفواه المفتوحة الجائعة . فإذا كان سوق عكاظ مرتع خصب لكل من جادت قريحته شعرا ، فإن سوق البؤساء هذا تكشف سلعه كل أنواع الحرمان.. الآن هم يشغلون النساء أكثر من الرجال، والأغراض واضحة والمبررات فاضحة…
بوشعيب ليس بدعا من بين هؤلاء، لكن ما يميزه عنهم هو أنه يعلم علم اليقين أن له حقا ضاع بين جشع الجاشعين واستغلال المستغلين. هذا هو “الموقف” ، زنزانة كل متشرد، وبحبوبة أمل لكل ساع لكسر أنياب الفقر. “بوشعيب! هاهي الشمس قد مالت نحو الزوال، وأنت لم تحض بأي عمل منذ أيام، وقد أفنيت أعواما من عمرك في هذا المكان البئيس دون جدوى.. ماذا لو تفكر في مغادرة البلاد! إيـــه ولكن…مكاين ،لاولكن ،لا عبو 16…آبوشعايب،الصبية.. الزوجة من لهم.. !إيــــوا حتى نت أبوشعايب، لهم الله ، ربي كبير، رحمته واسعة..” حديث النفس هذا قاده حتما إلى سمسار كان يعرفه،ماهر في ترحيل الشباب إلى الضفة الأخرى.
ــ نعم، نعم ،سأضمنك شريطة أن ترسل ثمن الرحلة من “الخلصة” الأولى ..
ــ موافق، كثر الله من أمثالك،وأعطاك كل خير. تكدس الزورق الصغير القديم المهترئ بأجسام تداعت إلى قصعة ما وراء البحر،لم يطل المقام حتى قدم الربان،وهو ضخم البنية،غليظ الرأس،يبدو أنه مناسب لمثل هذا العمل،لا يمكن لأحد أن يتجرأ عليه،فلربما رماه خارجا في الماء دون أن تكون له الفرصة لرفع سبابته للتشهد.
ــ أيها الزائرالجديد
ـ يقصد بوشعيب ـ هل تعرف العوم؟
ــ بطبيعة الحال، يقولها وأنفاسه المتقطعة تكذبه..في الوقت الذي تتعالى فيه بعض القهقهات وتبرز بعض الأسنان الفحمية الجوفاء كأنها أعجاز نخل خاوية.
ــ إذن،سنتفق، سننطلق عى الساعة العاشرة ليلا، كونوا حذرين! وإياكم أن تتأخروا، لن ننتظر أحدا. هيا تفرقوا الآن!
لم يتخلف أحد، لقد حضروا جميعهم في الوقت المناسب،إنها فرصة العمر لكل واحد منهم، وبعد أن أعطى “الباترون” خطته،انطلقت “الألواح” تمخر عباب البحر. رائحة الأرجل تزكم الأنوف، وسجائر”كازا” الممزوجة برائحة العرق تبطل وظيفة كل ذي حاسة رهيفة..ولسعات البرد الرطبة تلزم الجميع بتقليص الأعناق ..إلا صاحبنا الذي أخرج رأسه، ينظر إلى السماء الزرقاء،يعد نجومها عدا، يحدق في أكثرها إشعاعا..ثم يرجع بصره إلى صفحة الماء يرى القمر نازلا ضيفا عليها، تعكس ضوءه الخافت مويجات الماء اللطيفة.
يتبع
جميل يا كريمو واسلوبك اجمل….اتمنى الا تكون بوشعيب…فالغربة فضيعة والفقر عندنا افضع …هما امران احلاهما مر….