رضوان كسابي
يعتبر الدكتور المهدي المنجرة واحدا من ألمع علماء المستقبليات ليس فقط على مستوى الوطن العربي بل على الصعيد العالمي أيضا، فهذا الخبير الكبير والذي لا يعرف عنه الكثيرين إلا النزر اليسير، له مساهمات عالمية كبيرة في استقراء مستقبل البشرية عامة، والوطن العربي خاصة، وبحكم الانتماء لهذا الفضاء الجيوثقافي، الذي نسميه العالم العربي، نسلط الضوء على ما توقع المهدي حدوثه ووقع فعلا، ولدرء اللبس على القارئ الكريم، فالمهدي المنجرة عالم مستقبليات وليس منجما، و المستقبليات علم له رواده وعلماءه والدكتور المهدي المنجرة واحد منهم.
للمهدي المنجرة عدد كبير من المنشورات منها ما كتب بالعربية والفرنسية والإنجليزية، منها ما ألفه باشتراك مع زملائه من العلماء المستقبليين الذين اشتغل معهم على قضايا تؤرق البشرية، بمختلف أنحاء العالم، لكن ما استوقفني كثيرا في فكر هذا الرجل العظيم، هو كتيب “صغير” (من حيث الحجم المادي) يحمل عنوان مقتضب وهو عولمة العولمة، من منشورات جريدة الزمن لشهر سبتمبر من العام 2000م، في 108 صفحات من القطع الصغير، على “صغر” هذا الكتاب وأعتذر على هذا التعبير وهو كتاب الجيب، إلا أن شأنه كبير للغاية، فهو كتاب لا يتناول موضوع موحد لأنه ببساطة عبارة عن مجموعة من المقالات التي نشرت للدكتور المهدي المنجرة عبر فترات زمنية متفرقة وفي مناسبات ومنشورات متنوعة منها المجلات والكتب المؤلفة بالاشتراك مع زملائه أو في إطار منشورات لندوات جماعية ساهم فيها بفكره المتقد، جمعت ونسقت وترجم منها إلى العربية ما كان بغيرها من اللغات، كل ذلك على يد الإخوة في جريدة الزمن.
هذا الكتاب الذي ابتعته من زميل لي يلقب بأفلاطون عندما كنا تلاميذ بثانوية ابن الياسمين بتازة، وبالضبط بالمرقد 12 من داخلية (لانطيرنا) نفس الثانوية، قرأت الكتاب خلال تلك الأيام وتسربت أفكاره إلى ذهني فشكلت قناعات راسخة دون أن أدرك ذلك، حتى اندلعت الثورات العربية في هذه السنة، فرحت أراجع الكثير من الأفكار والقناعات والكتب الموجودة بحوزتي، وبعد تصفح الكتاب وجدت بعضا من التسطير بقلم الرصاص يعود للفترة الثانوية، يبرز أهم ما ورد في هذا الكتاب.
ففي مقال تضمنه الكتاب المذكور في الصفحة 63 وما بعدها، بعنوان يحمل الكثير من الدلالات: (المجتمعات العربية: اختلالات الراهن وسيناريوهات المستقبل)، سبق وأن نشرته مجلة الآداب البيروتية في العدد 11/15 ديسمبر 1999. وهو عبارة عن استجواب بين عالم المستقبليات المهدي المنجرة ومحاوره عبد الحق لبيض، يعالج المقال واقع المجتمعات العربية واحتمالات المستقبل الذي ينتظرها، وهو مستقبل بدا للمهدي المنجرة واضح المعالم، بحيث رسم له ثلاث سيناريوهات، بعد تشريح جميع أعضاء جسم الواقع
العربي المترهل، من نكساته التاريخية إلى وضعه الثقافي مرورا بالاقتصاد والسياسة والمجتمع، مؤكدا أن هاجس الأنظمة العربية الوحيد هو خوفها المزمن من شعوبها (ص 66) مما جعل الظاهرة الأمنية والعسكرية تتضخم وتخنق الكل، وهو ما نلاحظه اليوم بشكل جلي في الظاهرة البوليسية للنظامين التونسي والمصري الساقطين، والظاهرة العسكرية للنظام الليبي واليمني والسوري التي لا تزال تبطش بشعوب هذه الدول.
كما وصف كل ما يسميه البعض بالتجارب الديمقراطية في الوطن العربي بالخداع فهي تهدف في المقام الأول إلى إخفاء الوجه البشع للأنظمة الفاشستية التي تعتمد على إرادات مافيا متخصصة في النهب الجماعي، وبمباركة من الإستعمار القديم الجديد (ص 66). وهذا ما نراه مثلا بشكل جلي في التهاني والمدح الكثير الذي يتلقاه النظام بالمغرب في هذه الأيام على أي شيء يمكن أن يراوغ به الشعب لكي لا يثور، حيث اتفقت الصحف والقنوات والدول الغربية على امتداح المغرب في برامجها وتقديمه كأنه واحة للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي، بينما الأمر على خلاف ذلك، وكل ذلك من أجل الحفاظ على مصالحهم الضيقة خاصة مصالح الفرنسيين والأسبان، وليذهب المغاربة للجحيم.
كما لا يتوانى الدكتور المهدي المنجرة في اعتبار العالم العربي بمعناه الجيوسياسي اختراعا غربيا أو خارطة رسمها الإنجليز والفرنسيون، وجاؤوا بحكام ما نزال إلى اليوم نؤدي ضريبة بلادتهم وتبعيتهم السياسية للغرب، بل واعتبر هؤلاء الحكام الخدم الأوفى لإسرائيل أكثر مما قدمه لها وعد بلفور من خدمات (ص70).
لكن أهم ما ورد في هذا المقال، وقد أزعم لأقول في كل هذا الكتاب، هو تلك السيناريوهات الثلاث التي وضعها عالم المستقبليات هذا لمستقبل الشعوب العربية، وهي دقيقة وجد مختصرة، لكن عميقة جدا، وقد بدا الآن واضحا أن السيناريو الأخير الذي رجح حدوثه الدكتور المهدي المنجرة هو الذي يتحقق في أرض الواقع، ولكي لا أطيل على القارئ الكريم، أستأذن المؤلف والناشر بنسخ السيناريوهات كما وردت في الكتاب مبرزا إياها بخط عريض لتميزها على التعليق الذي قد أضيفه لها.
يقول الدكتور المهدي المنجرة: “” هناك في رأيي ثلاثة سيناريوهات ممكنة. أولا، سيناريو الاستقرار والاستمرار. وهذا السيناريو يعني أن تستمر الأمور على ما هي عليه، ولذلك، فإنها تحتاج إلى دعم من البنك الدولي، والجيوش الأجنبية التي تستوطن البلاد العربية وتؤدى لها فواتير الإقامة. غير أن الاستقرار البيولوجي يعني الموت وتعطيل الإبداع والخلق والابتكار. وهذا السيناريو الذي يسمى عادة بـ ” ستاتوسكو” غير ممكن في حياة الشعوب. (ص72 – 73).””
وهذه حقيقة نلاحظها قبل وأثناء الثورة العربية، فالأنظمة العربية خارج بني نفط، لن تستطيع البقاء دون مدها بالأوكسجين والدماء من الخارج، عبر القروض والمساعدات والهبات والأعطيات، حتى أصبحنا أحقر المتسولين على الأرض، أما أنظمة بني نفط المتخمة، فهي كذلك لا تستطيع أبدا أن تستمر في الوجود لولا وجود الجيوش العالمية العابرة للقارات والتي تستوطن هذه الدويلات، للدفاع عنها من خصوم حاميها، وفي نفس الوقت تصبح هذه الأنظمة رهينة لدى من يتكفلون بحراستها. وهذا الوضع كما وضحه عالم المستقبليات آنفا لا ولا يمكن له أن يستمر إلى الأبد.
“” السيناريو الثاني هو سيناريو الإصلاح، الذي كان قد تعطل نظرا لاستمرار السيناريو الأول. ويمكن لهذا السيناريو أن ينجح بنسبة 30%؛ إلا أن ذلك يظل رهينا بسرعة التدخل لإقامة الإصلاحات، والوعي بالإكراهات التي تستوجب منا معالجة فورية وجذرية لمسائل مثل: مسألة الديمقراطية وشروطها الضرورية، والعمل على وضع دعائم المجتمع المدني. غير أن هذا السيناريو كلما تأخر العمل به صار من المتعذر الإقدام على إصلاحات فاعلة وناجحة. أنا لا أقصد هنا الثورة ولا أبغي إشعال نار الفتنة، وإنما أدعو إلى يجتمع الكل سريعا على مائدة المفاوضات، وأن يتم التسامح في العديد من الأمور… وإن كنت شخصيا، أرى أن المشكلة التي تواجه هذا السيناريو تكمن في عدم وجود قوة سياسية في أي بلد عربي قادرة على تقديم برنامج تغيير عن طريق الإصلاح. (ص 73).””
وهذا ما نلاحظه بجلاء في حالة المغرب، الذي استمر لعشر سنوات يستهلك خطاب الانتقال الديمقراطي، دون أن نصل إلى الديمقراطية، وفي الأخير وتحت ضغط الشارع تم الانتقال إلى تعديل الدستور، الذي لا يزال مثار جدال كبير، وهو مخاض عسير لا يمكن تفسيره إلا بكلام المهدي المنجرة عن غياب كلي لأي قوة سياسية في البلاد قادرة على تقديم برنامج تغيير عن طريق الإصلاح، رغم أن لدينا نظام ملكي قادر على اتخاذ المبادرة وإطلاق إصلاح جذري، لكن غالبا ما يواجهه حزب الفساد والمستفيدون من الوضع بطرق تفرغه من محتواه، ونظل ندور في حلقة مفرغة، ويتزايد الضغط على الإنسان العربي المحتقر والمقهور والمهدور إلى أن ينفجر الوضع ويخرج عن السيطرة كما حدث في الدول العربية التي أسقطت الشعوب الثائرة أنظمتها المستبدة.
أما في السيناريو الثالث والأهم والذي يتبناه الدكتور المهدي المنجرة، ويعتقد أنه هو الذي سيحدث في الواقع وذلك منذ ديسمبر 1999م، على الأقل تاريخ نشر هذا الحوار في مجلة الآداب البيروتية، يقول المهدي المنجرة:
“” السيناريو الثالث هو سيناريو التغير الجذري أو المواجهة أو التحولات الكبرى والعميقة. وحتى الآن لا ندري كيف سيتم هذا التغيير وما هي درجة سرعته. وهو اليوم الذي كانت قد وقعت فيه ثورة الشعب المغربي ضد الاستعمار الفرنسي سنة 1953م. وكانت هذه الثورة قد مثلت لحظتها تغيرا جذريا، سواء على مستوى وعي الشعب المغربي أو على مستوى وضعية الاستعمار الفرنسي. وهذا الاستعمار لم يتوقع قيام هذه الثورة بالسرعة التي تمت بها. ولم يختلف التاريخ كثيرا في الحاضر؛ فبإمكان التغير الجذري أن يقع في أي لحظة.(ص76)””
لم يكن أحد يعتقد أن إحراق البوعزيزي لنفسه قادر على إشعال الوطن العربي بالثورات المناهضة للأنظمة المتعفنة، ولا قادر على إحداث تغير جذري في وعي الشعوب العربية، فالثورات أو التغيرات الجذرية دائما تحدث بشكل غير متوقع ولا يمكن التكهن به، لكن استقراء المؤشرات الدالة عليها أو المؤدية لها ممكن وهذا ما قام به الدكتور المهدي المنجرة.
“” والشيء الوحيد الذي نتمناه هو أن يكون ثمن هذا التغير قليلا. والشيء الأكيد هو أنه كلما تأخر هذا التغيير ازدادت التكلفة؛ ولنتذكر النموذج الجزائري والكنغولي والنموذج الأندونسي والنموذج الأفغاني.(ص76)””
وها هو الأنموذج الليبي والسوري يؤكد ذلك، فكلما طال أمد حكم نظام عربي ما على نفس الطريقة القروسطية دون أي تطور أو تحسن، كلما صعب التخلص منه، وبالتالي يكلفنا غاليا وهذا ما يحدث في بعض الأقطار العربية حاليا.
“” أنا لا أتصور مستقبلا للبلاد العربية إلا في إطار هذا السيناريو الثالث، لأن السيناريوهين السابقين لا يمكن تحقيقهما في ظل الوضعية العربية الراهنة. فلا يمكن أن نجلس ونخطط لسيناريو الإصلاح في ظل حكم الفاشستية العربية الجديدة، المتولدة عن النظام العالمي الجديد، والمتحالفة مع أنظمة الإستعمار الجديد، والفاتحة أدرعها للعدو الصهيوني. (ص77)””
وبناءا على السنريوهات التالية التي وضعها المهدي المنجرة للمستقبل العربي، يتبين أن السيناريو الأخير هو الذي وجد طريقه للواقع فعلا كما سبق للمهدي المنجرة أن توقع ذلك في ديسمبر عام 1999م. فأمام انسداد الأفق وغياب أي شكل من أشكال الإصلاح التي توقعها السيناريو الثاني لأن شروط الإصلاح كما تم توضيح ذلك غائبة، أمام هذا الأفق المغلق والجامد كان لا بد من إحداث تغيير ونقلة جذرية تزلزل السكون العربي وتكسر تكلس أنظمته المستبدة.
وهو ما تم فعلا على يد البوعزيزي الذي احتقره وأذله النظام وما كان له إلا أن أحرق نفسه، منتقما بطريقته الخاصة من النظام، وهو ما احتدت به الشعوب العربية في كثير من الأقطار.
لم يقتصر حديث الدكتور المنجرة على السنريوهات المستقبلية للوضع العربي، بل انتقل في حواره المطول مع السيد عبد الحق لبيض، ليتطرق للدور الذي يجب أن تلعبه النخبة المثقفة في قيادة التغير الذي سيشهده العالم العربي مع تحديد إطار زمني دقيق لهذا التغير، قد يثير استغراب الكثيرين ومن ضمن ما قاله المهدي المنجرة والذي يؤكد دقة تفكيره وقدرته الكبيرة على استشراف المستقبل، بصدد حديثه عن دور المثقف قال: “” ما يهم من كل هذا هو أن المثقف مطالب اليوم باستعادة دوره المفقود وقيادة مرحلة التغيير التي ستكون إحدى علامات تاريخ مجتمعاتنا العربية في العقود الأولى للقرن الحادي والعشرين.”” (ص80).
ولم يشرف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (الحالي) على الانتهاء حتى بدأ التغير يطرق أبواب العالم العربي، فمع نهاية الأيام الأخيرة للسنة الأولى من العقد الثاني في هذا القرن، كسر الشعب العربي حاجز الصمت والخنوع، ليبدأ عصر جديد يتدفق بحيوية الشباب الثائر على الأنظمة العربية الهرمة. أحرق البوعزيزي نفسه ومعه انتهى عصر تاريخي بائس ليبدأ عصر تاريخي جديد، كل ما نتمناه أن يضع الأمة على السكة الصحيحة وبأقل الخسائر.
لقد سعيت من خلال هذه المقالة المتواضعة، أن أسلط الضوء على علم من أعلام المغرب الذي طاله النسيان، ولم تشفع له مكانته العلمية المرموقة على الصعيد العالمي، ليكون له موقع بارز داخل وطنه، ليقدم النصيحة لمن أراد، ولنكرمه لم لا بتسمية جامعة أو أكاديمية علمية باسمه الخالد، أردت أن أقول إن المغرب خاصة والعالم العربي بشكل عام غني بالخبرات والكفاءات العلمية التي يستفيد منها الغرب والشرق، دون أن يكون للأوطان التي أنجبتها نصيب منها، لأن الأنظمة الحاكمة في العالم العربي لا تقدر العلم والعلماء، لأنها أنظمة لقيطة عميلة مصيرها مزبلة التاريخ، ولأنها تدفع للراقصات والراقصين أضعاف ما تنفق على العلم والعلماء.