بسم الله الرحمان الرحيم
القصة تصور حدثا واقعيا في نهاية الثلاثينات (1936و1937) ،أيام الإستعمار الإسباني للمغرب والحرب الأهلية الداخلية في إسبانيا
اللاعــــــــــــودة: بقلم عبد الكريم – زايو سيتي
بعض خرفان مسلوخة متدلية من أغصان أشجار وارفة الظلال، أكوام صغيرة من الخضر، متناثرة تصطف في الجهة المقابلة ، وصخور ناصعة الزرقة تمتد من قمة الجبل إلى سفحه، بينما ينبسط المكان إلى حدود الوادي..وخارج الرحبة دواب لا تبالي بالزمن لأنها والفت الحدث والمكان
وتتسيد المكان حصائر تحت أشجار الخروب ، قد تآكلت أطرافها وانمحت بعض قسمات صانعها. وهناك على إحدى الحصائر ،عند القهواجي” أسِّ العربي”، أناس دراويش، بسطاء بؤساء يأوون إلى المكان يوم السوق،يدعون أسرارهم و أحاديثهم لدى” مولاي العربي” كما كانوا يسمونه..يستبشر الجمع مطرا وخيرا كلما دنت غيمة وهبت نسمة رياح باردة..كانو لا يبالون بصعاب الحياة ولا بمشاق العمل في الأرياف، لكن هذه المرة ، قل المطر وجفت الأرض ونفدت المؤونة من المطامير.
يتكئ” امبارك” على جنبه وهو يضع يده وتدا لرأسه و يده اليمنى تنقبض كلية على كأس شاي ،وقصر قامته تفسح المجال لرفاقه بالجلوس…يتأمل الباعة والمشترين، يساير عينيه حتى يكمل بعض المتسوقين المساومة والشراء، ثم يرجع بصره ليرى لغز السوق ملخصا في نظرات غريبة وذات معنى في الوقت نفسه.. يرفع رأسه إلى زرقة السماء يريد بذلك أن ينخلع عن المكان، تارة يستمع لأحاديث صحبه وتارة أخرى يغيب عن المكان ، شارد الذهن
ــ أسِّ امبارك! يناديه القهواجي وهو يهيء براد شاي لمجموعة مجاورة
ــ ماذا هناك؟! يرد كمن كان في غيبوبة تامة و أرجع أنفاسه من جديد
ــ تبدو هذا اليوم على غير العادة ، أظنك تغرد خارج سربنا! اترك هموم الدنيا عنك ، انس الهم ينساك
ــ السلام عليكم : يقطع حديثهم رجل جذبته إليهم عذوبة المكان ورغوة الشاي، ويبدأ في الحديث : أما سمعتم أيها الإخوة أن فرانكو الإسباني
ــ الملعون، يقاطعه أحدهم بشدة
ــ لا ، لا ، فقد وعد من يقاتل في صفوفه من المغاربة بأراض شاسعة بالأندلس ومورسية وبلنسية…
في هذه اللحظة ، يتزحزح” امبارك” من مكانه ويغير جلسته، وكأن حديث الضيف راقه ، كيف لا وشرود ذهنه قبل قليل لم يكن إلا حديث نفس عن القتال و”فرانكو” و”الروخو” والإستعمار الإسباني و التجنيد والجفاف والمجاعة
ثم لا يترك مجالا لأحد منهم بالتحدث فيقول : أي نعم، أعرف فلانا وفلانا و…رحلوا إلى اسبانيا ليقاتلوا في صفوف فرانكو وسمعت أنهم سوف يرسلون إلى عيالهم مالا ليس بالقليل
يضع “اسِّ العربي” إبريقا كان في يده ويضرب يده بالأخرى : هذا الذي كانت ينقصنا، أن نبيع أنفسنا بثمن بخس للكفار الغزاة مقابل معدة..كم وكم مُلئت وأفرغت! والله هذا لعيب ما رأيت أقبح منه ولا أحط قيمة من صاحبه
يسكت قليلا ثم يضيف : ولماذا إذن ، في كثير من مناطق الريف ، أقصد الناظور والحسيمة وكتامة وتطوان ، يختطفون الشباب فيرسلونهم إلى تطوان أو سبتة، قبل أن يتم ترحيلهم بالقوة إلى إشبيلية وساحات المعارك
ويردف آخر: ما لنا و”فرانكو” و اليسار و” الروخو” و الحرب الأهلية ، ذلك شأنهم ،لا علاقة لنا به نحن المغاربة. كفاهم إجراما وتقتيلا لنا …وما زالت أشواكهم فينا ،ينهبون ثرواتنا ويذلوننا. وما ذنبنا إلا أننا نملك ضرعا أوردنا الهلاك
أخذ الكلمة أحدهم ولعله كان أفقههم وأثقفهم: إن هذه الحرب الأهلية ــ يا إخوان ــ حرب داخلية بين” فرانكو” وفريق آخر يدعى الجمهوريين ، وما يجب أن تعلموا أن” فرانكو” متدين مثلنا أما الآخرون فهم شيوعيون ــ أقصدــ ملاحدة ينكرون وجود الخالق ، ولا بأس أن نساعد” فرانكو” إذا كان ذلك ممكنا
ثم يضيف آخر: الموت واحد،على الفراش أو بالبارود. لا، لا داعي للخوف
يتنهد” امبارك” وهو ينفض قشور الكاكاو على جلبابه الخشن، فكأن المتحدث الأخير قد حك جلده في المكان الذي كان يريد
ويستمر الحديث بين مؤيد ومعارض، وتزحف الشمس نحو الزوال، فتبدأ الدواب المربوطة جانبا في النهيق تعلن وقت الرحيل ،هكذا تهدأحركة السوق شيئا فشيئا وينصرف الجمع راجعين إلى منازلهم
يعود صاحبنا ” امبارك” مثقلا بأحاديث الصباح ، وهو يضع بعض حاجياته على جانبي دابته ، ورجلاه القصيرتان تتدليان من جانب واحد، ويمتد جسر الرصاص والبارود مرة أخرى إلى ذهنه فيغرق في أحلامه وهمه كيف يعيل زوجته وأولاده..وتزيده نغمات وقع الحوافر بعدا عن المكان والزمان ، وبين الفينة والأخرى تلامس رجلاه عنق حماره تحثه على الإسراع
لم يحس إلا وزوجته” فطوش” وأولاده الثلاثة عند مربط الحمار يتكلفون بإنزال المؤونة،وذلك القط يتحلق حولهم يريد نصيبه أيضا
تستقر أوهامه وهو في البيت يداعب الصبية ، لكن سرعان ما تراه فطوش يحدق فيهم دون حراك، فتناديه : لا شك ، يا زوجي العزيز أن شيئا قد عكر صفاءك هذا اليوم، بل رأيتك على غير عادتك منذ أيام
ــ لا ، بل قولي بشرى يا أم العيال
ــ الله يسمعنا خيرا
ــ وجدت عملا وراء البحار، قررت أن أحارب في صفوف فرانكو مقابل مال كثير، وقد سمعت أن أراض في بلاد الأندلس ستمنح” للمجاهدين” المغاربة
يصفر وجه الزوجة، وينتصب شعرها عند كل كلمة توحي بالمأساة: فرانكو ، قتال ، حرب ، فهي تعلم كثيرا من الحكايات عن الإسبان والإستعمار والقتال والرصاص والدم
تحاول المسكينة ثنيه للرجوع عن هذه الفكرة المصيبة، وهي متيقنة من أن” امبارك” سيرحل رحلة أبدية ولن يعود إلا محمولا أو مثخنا بالجراح التي ستبقيه عالة دون حركة. فتذكره بمن سبقه دون رجعة، لكن يأبى إلا أن يكون الحامل للسلاح وراء البحار ، ويستمر في إقناعها بأن الأجل لن يتأخر ولو بثانية، فالموت واحد، هنا أو هناك ، بالجرح أو بغيره.
آه، ما أخف وطأة وحدة المجاعة والجوع على القتال في صفوف المستعمر
هكذا تودع” فطوش” أحلامها ، وهي تنظر إلى زوجها تارة وإلى الأطفال من حولها تارة أخرى ، ينهمر الدمع غزيرا من عينيها ، أما “امبارك” فلم يبين أحاسيسه وتأثره، وراح يقلب نظره في الصبية ويقبلهم الواحد تلو الآخر، وفكر في أن رابعهم سيأتي بعد ثلاثة أو أربعة أشهر، <<عذرا ولدي الحبيب ، ربما لن ترى عيناك أباك في هذه الدنيا أبدا>>. يتمتم في نفسه ،<< لكن سنلتقي في الجنة>> ، ويضيف بصوت مسموع: إن شاء الله
نظر إلى زوجته وهي تجمع له بعض زاد الطريق ، اشتكى قلبه ألم البعد والغياب ، فأسقط العبرات خفية لئلا تراه، وبدأ يسرق منها بين الفينة والأخرى قسمات وجهها النوراني الأخيرة
ودع أخاه وبعض الجيران ، وراح يسرع في خطواته ويتأمل الطريق المألوف لديه، توهم أن الحجر والشجر يخاطبه وينظر إليه، وصل إلى ربوة لعلها تكون أخر عهد له لرؤية الأهل والأحباب ، فراح يلوح بيديه وقلبه يخفق من شدة ألم الفراق
اكتمل التوديع ، واستقرت الملامح في كل الأذهان ، وولت الزوجة الوفية إلى بيتها وكأنها كانت في تشييع جنازة، وأطفالها يمسكون بتلابيب كسوتها ويحكمون القبضة عليها معتقدين أن أمهم ستسلك طريق أبيهم
تمر الشهور وتنقضي ، وتقف فطوش كل يوم أمام بيتها المتواضع عند مغيب الشمس ، ترى القرص الأصفر كاملا يتوارى خلف الجبل شيئا فشيئا إلى أن يختفي ، فتتصاعد لسعات البرد تلزمها الدخول، وهي تتذكر رحلة زوجها لعله تشرق شمسه من جديد
ما أصعب حياتها ! وما أروع صبرها ! تظل تحصد ما زرعته بيديها لكسر أنياب الفقر المذقع ، تستعيد مع كل عمل تقوم به الذكريات المدفونة تحت أنقاض تقلبات الزمان ، لا يعيق عملها التعب ولا العرق الذي يتصبب من جبينها الطاهر
ورضيعها أسمته” مسعودا” تبركا، ترى فيه أملا لرؤية أبيه إذاعاد سالما معافى ، تحزمه “لمبروكة” التي تفتخر بكونها أصبحت أماًًّ تروح به وتغدو إلى ظل شجرة، وعندما يتعب ينام نومة عميقة متلذذا بنغمات ألحان أمه التي تهجو الروخو( اليسار الإسباني)،، نغمات أمازيغية كافية لدغدغة عصافير الصباح
تطعم أولادها فينطلقون للعب ألعاب الطفولة المقهورة ، ” بشير” يستبشرقنصا ثمينا من خلال عود يتوهمه بندقية ، يظن نفسه البطل المقدام الذي يخلص نفسه من ألم الجوع ليس إلا، أما “مبروكة”، فتصنع أجمل العرائس ، تتمتم معها في حديث غريب شجي، تداعبها مرة فتحنو عليها ، ثم تقسو عليها حينا تظن فيها قساوة أمها عندما لا تجد ما تطعمها به
أما عند نفاذ المؤونة، فتخشى أن يدب الخبر إلى الجيران، فتشعل النار في التبن حتى يتصاعد دخان يوهم الناس أنه ما زال في دار فطوش ما يسد الرمق
قالوا مجروح..وسيعود إلى الوطن قريبا ، وصل الخبر على عجل إلى تطوان ومنه إلى الدوار ، لتتلقفه” فطوش” كوقع الصاعقة، لكنها حمدت الله على أنها سوف يراه الأطفال وتراه ثانية على قيد الحياة
هيأت كل ما يلزم لاستقباله ، ستفرح بقدومه… ستدعو الأقارب والجيران… ستقدم صدقة بمناسبة نجاته…
في إحدى الأمسيات القريبة، سقط الشوق من القلوب، وخمدت شعلة الترقب من الأجساد ليحل محلها لهيب الصدمة و المصيبة ، البنت تركض نحو أمها وقد سمعت في دار عمها صراخا ممزوجا بكلمات متقطعة ، تعيد ما سمعته ورأته لأمها التي خارت قواها ، ودب الفشل إلى ركبتيها ، تجري نحو مصدر الخبر، فما أحست بأن هناك بساطا تطأعليها ولا أشواكا تنغرز في رجليها .. أما نعالها فقد تركتها حبيسة الخطوة الأولى ..
ــ قل لي بربك ماذا هناك ؟
ــ ايه…دون أن أخبئ عليك يا” فطوش” ، البركة فيك وفي أولادك، أخي امبارك..! يقولها الحاج وقد اغرورقت عيناه بالدموع
تأخذ المسكينة بيد ابنتها التي وصلت في الحين ، والعبرات تسقط والفم مليء بعبارات همس : ميم وباء وراء وكاف
لكن سرعان ما استرجعت قواها وحمدت ربها على كل حال،ولم يكن أمامها إلا أن استسلمت لقضاء الله وقدره، فلا البكاء يجدي ولا الندب يصلح
هكذا انطلقت انطلاقة جديدة ، ترى في أطفالها الأربعة رمز كفاح لا ينقطع ، وتدفق أمل لا يندثر، لكن ما زالت صورة” امبارك” أمام عينيها ، لا تفارق مخيلتها ، تتذكره كلما أشرقت شمس الصباح ورحلت ، كلما هبت نسمات الرياح وسافرت…
آمبارك نموذج للمغربي المقهور على أمره الباحث عن رغيف خبز لا يهمه نوع العمل آكان حربا أم سخرة المهم هو سد رمق أبنائه ،آمبارك عاد بخفين حنين لا شهادة يلقى بها ربه و لا أراض و مزارع في مرسية ،إلتحق بالرفيق الأعلى و هو ساخط على بلده و سيده الذي يحكمه، بلد سخرت خيراتها لزمرة قليلة مسحت الأرض مسحا و عتت في الأرض فسادا٠٠٠٠ مقال جميل و قصة ها دفة ، واصل
tabi3 3amalak mobadar jamila yastahi9o tanwih bih
kissa mo atira jidan taekhodo kari aha ila alwaki3 li ya3icha tafasilaha hakikatan fachokran li katib hadihi alkissa ssi abdalkarim famazid mina alibda3 wa tawfik inchaellah
الشكر موصول لكل معلق،شكرا جزيلا على تشجيعكم وتحفيزكم الذي لن يزيد إلا إصرارا على الكتابة .
القصة بطابعها العام وقعت ببادية من بوادي مدينة زايو،فالمراة الصابرة رحلت إلى ربها بداية سنة 1989 كما أن أحد الأبناء انقطع عن هذه الدنيا منذ أكثر من 50 سنة ، في حين لا زال باقي الأبناء على قيد الحياة..أما عن الأسماء فهي بطبيعة الحال غير الأسماء الحقيقية. وشكرا مرة أخرى لكل من قرأ هذه القصة المتواضعة.
جميل ان نقرا شيئا بطعمن محلي فيه رائحة ما عاناه الاجداد و قاسوه لغة جملبة و بسيطة
لا ادري هل قرات وليمة لاعشاب البحر ارجو الصراحة
و بدا يسرق منها بين الفينة و الاخرى قسمات و جهها لا تعليق
إلى الأخ بدر
أظنك ربما تتحدث عن رواية من الروايات ،أو قصة من القصص القصيرة،والله ما سمعت عنها قط،ولا ولعت برواية من الروايات، غير أني أحب كل لون أدبي راق يحمل رسالة وإن كانت روحية رومانسية.والقصة تكاد تكون الأولى من محاولاتي ،والذي دفعني إلى كتابتها هو أني ابن من أبناء المنطقة ،تشربت تفاصيلها وأنا في حجر جدتي الحنونة رحمها الله.
قصة رائعة ممتازة وتارخية واطلب من الموقع نشر صورة القاص ليتعرف عليه شعب زايو سيتي الافتراضي
لانك كنت صادقا فانا احترمك اما الكتابة فهي شيئ اخر ودكر لوليمة لاعشاب البحر جاء لاني اعجبت بالرواية رغم الاختلاف مع الكاتب في المرجعيات