رضوان كسابي
بين آلام وأهات الشعوب العربية الثائرة على أنظمتها الديكتاتورية، وبين جثث الشهداء ودماء المصابين والأحزان العميقة التي تطل بها علينا وسائل الإعلام صباح مساء، بين هول ما يحدث وهول الصمت المتآمر على الثورات العربية والتي يراد إقبارها ووأدها في أيامها الأولى، بين كل هذه الأحزان تنتعش النكت والمواقف الهزلية التي كانت في الماضي تملأ حياة الإنسان العربي، لكن هذه المرة لم تعد تقتصر عليه وحده ولم يعد الإنسان العربي البسيط هو بطل هذه النكت والهزليات، بل أصبح الزعيم العربي الذي تطارده الشعوب هو بطل هذه النكت والهزليات، وليست النكت والهزليات هذه غير واقعية أو من وحي الخيال، بل صنعها بشكل حقيقي وعلى المباشر الزعماء العرب الذين يتساقطون الواحد تلو الآخر كأوراق الخريف، وهذا لم يقتصر على زعيم عربي دون آخر ممن سقطوا فعلا أو من المرشحين للسقوط في الأشواط الموالية من الثورة العربية المجيدة، وكل زعيم عربي إلا وترك أو سيترك تلك اللقطة التي سيتندر بها الشباب والتاريخ ويعجز صناع السينما والمسرح على محاكاتها إلى الأبد.
من أبرز اللحظات الهزلية التي وقع فيها زين الهاربين بن علي خلال اشتعال الثورة التونسية، بعد 27 سنة في الحكم وبعدما يئس من قدرته على التحكم في زمام الأمور، وبعدما تأكد من قرب نهايته، بعدما لعب كل الأوراق، من قتل وتشريد وترويع…، بعدما استنفذ كل شيء، قال للشعب في تلك اللقطة الهزلية المحيرة وبلغة الاستجداء والركوع والاستسلام المريع، ماذا قال لشعبه؟ قال وبعد تلكؤ شديد والغصة في حلقة أنا فهمتكم!!!!!! أنا فهمتكم!!!!!! أنا فهمتكم!!!!!! وأتم المهزلة على المباشر وقال إنهم غالطوني!!!!!! يا سلام كيف يستجيب الزعيم العربي لمطالب شعبه ليس لأنه أدرك خطأه وحاول تجاوزه فهذا من المستحيلات التي لن يقوم بها القائد العربي، بل ويا للهول بعدما استنفذ كل أوراقه الإرهابية والمرعبة التي أتقن استغلالها لإذلال شعبه لسنوات طويلة،
لكن من المنتصر في النهاية؟ من أصبح يستجدي عطف الآخر؟ هل الشعب؟ أم الرئيس وعصاباته التي تركته يواجه مصيره، الشعب عندما نهض لسان حاله يقول لهذه الطاغية إفهم أو لا تفهم لا يهمنا ذلك المهم أن ترحل، غالطوك أو نصحوك لا يهمنا هذا الأمر أنت من نصبهم حولك المهم هو رحيلك، فهل يتعظ الباقون؟.
في مصر أم الدنيا كما يحب الإخوة المصريون تسميتها، وبعدما جرب مبارك غير المبارك كل أسلحته من ترهيب الناس بالطائرات، إلى استعمال البغال والحمير لترويعهم، مرورا بقتلهم ورفسهم بسيارات الشرطة، ووصفهم بالبلطجية وغيرها من المصائب التي يشيب لها الأطفال، جاء ذات مساء وبدأ يخطب عليهم بشاعرية ورومانسية في مأدبة اللئام، رافضا التنحي، إلى أن أجبره العسكر عن الخروج حقنا للدماء، ومن فرط هول الصدمة أصيب القادة العرب بالنوبات القلبية والغيبوبة.
أما في ليبيا أو الجماهيرية العظمى تلك الفضيحة المفاهيمية التي أطلقها القذافي على بلاده والذي قضى في الحكم 42 سنة منذ ثورته المزعومة عام 1969 وهو جاثم على صدور الليبيين، يفعل ما يريد ولا يستطيع أحد أن يقول له لا، لأن مصيره سيكون إلى غياهب السجون، فقد حطم القذافي جميع المستويات والأرقام القياسية في الهزل والفكاهة والحماقة التي سبقه بها بن علي ومبارك، فقد وصف شعبه بالجردان والقطط، واعتبر أنهم أكلوا حبوب مهلوسة بينما هو من ظهر على المباشر كأنه أكل أشد المخدرات تأثيرا، وقال إن ليبيا هي القذافي، وأن القذافي هو مجد ليبيا، غير أن اللقطة السينمائية التي سيعجز أهل السينما على الإتيان بها هي تلك التي يظهر فيها تحت مطرية بباب سيارته ذات صباح ويصف فيها الإعلام العالمي الحر بقوله (إذاعات الكلاب) صراحة عندما شاهدت هذه اللقطة ورغم أحزاني على شهداء الشعب الليبي لم أتمالك نفسي فانفجرت ضاحكا وأعتقد أن الكثيرين وقع لهم نفس الشيء، ثم واصل القذافي خطبه الخرقاء العصامية والتي يخجل الإنسان العربي الحر من سماع العالم لها ولما يقوله شخص حكم بلد عربي لأربعة عقود، من بين ما قاله في خطابه الأبله مؤنبا شعبه الثائر (إن الثوار حشمو بلاده أمام العالم) أي أوقعوها في الحرج، وسبق أن قال نفس الكلام بمناسبة الثورة التونسية المجيدة ( قال إن الشعب التونسي حشم العرب أمام العالم لأنه طرد قائده بشكل مهين رغم أنه زين العابدين) في حين أن القذافي هو الذي حشم العرب والشعوب العربية كافة بخطابه الأرعن والشامت والذي ترك العالم يضحك علينا لأن هذا الأبله حكم شعب عمر المختار لمدة 42 سنة، ثم رفض التنحي عن منصبه مدعيا أنه قائد
ثورة وبالتالي سيستمر في منصبه إلى أن يموت، والغريب في الأمر أن زعماء الثورات لا يتوعدون شعوبهم ولا يرهبونهم، بل إن الزمن لا يطول بهم حتى ليحققوا مرادهم، أما زعيمنا المغوار قاد ما يشبه (ثويرة) تصغير لثورة و انقلاب على الملك لينصب نفسه ملكا مدى الحياة ويحكم أكثر مما حكم الملك الذي أطاح به. هذا عن الجانب الكوميدي أما الجانب الدرامي فتمثل في تهديد الشعب بالسلاح ومتابعته زنقة زنقة ودار دار، وقصفه بالطائرات وتجنيده للمرتزقة الأفارقة لقتل الشعب الليبي، وهنا أحذر من خطر هذه المرتزقة التي قد تكلف ليبيا آلاف الأرواح فإذا تمكن هؤلاء المرتزقة من المال والسلاح فقد يقوموا بنفس ما قام به جيش عبيد البخاري الذي شكله السلطان إسماعيل العلوي والذي تمرد بعد وفاة السلطان المذكور سنة 1727 وكلف القضاء عليه 30 سنة وآلاف الأرواح وخراب شبه كلي للمغرب.
أما في اليمن السعيد فإن صالحا الذي يصلح عفوا يسلخ اليمن منذ 30 سنة واصل مسلسل الرعب العربي وجاء بحصته من الكوميديا ومن الفكاهة والغرابة وقال لشعبه الثائر إنه لن يترك منصبه إلا عبر صناديق الاقتراع وكأنه وصل إلى الحكم عبر ديمقراطية أثينا، فمن يا ترى سيصوت مجددا على علي عبد الله صالح بعد كل ما حدث، بعدما قصف شعبه وجوعه ووزع خيراته على أفراد أسرته.
ذلك هو حال ما سماه الشاعر الكبير نزار قباني بلاد قمعستان في قصيدته الخالدة (تقرير سري جدا من بلاد قمعستان) وهذه بعض من أبياتها الخالدة والتي تصف حال هذه البلاد العجيبة:
هل تطلبون نبذة صغيرة عن أرض (قمعستان)
تلك التي تمتد من شمال إفريقيا
إلى بلاد نفطستان
تلك التي تمتد من شواطئ القهر الى شواطئ
القتل
الى شواطئ السحل, إلى شواطئ الأحزان ..
وسيفها يمتد بين مدخل الشريان والشريان
ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة
ويفقئون أعين الأطفال بالوراثه
ويكرهون الورق الأبيض, والمداد, والأقلام بالوراثة
وأول البنود في دستورها:
يقضي بأن تلغى غريزة الكلام في الإنسان
الله … يا زمان …
ويتصف قادة هذه البلاد بكثير من الخصوصيات البيولوجية والثقافية والنفسية التي ظهرت على السطح مع الثورة العربية المجيدة، وقد وصف لنا نزار قباني هذه المميزات في قصيدته الشهيرة (السيرة الذاتية لسياف عربي) بكثير من الدقة والأمانة العلمية بحيث يقول في مطلعها:
أيها الناس:
لقد أصبحت سلطانا عليكم
فاكسروا أصنامكم بعد ضلال ، واعبدوني…
فالقادة العرب يعتبرون أنفسهم آلهة لا يحق لأحد أن يعارضهم، وفي المقطع الثاني يصف خصال القائد العربي ويقول شاعرنا الكبير بصيغة المتكلم نيابة عن القائد العربي العجيب:
أيها الناس:
أنا الأول والأعدل،
والأجمل من بين جميع الحاكمين
وأنا بدر الدجى، وبياض الياسمين
وأنا مخترع المشنقة الأولى، وخير المرسلين..
كلما فكرت أن أعتزل السلطة، ينهاني ضميري
من ترى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟
من سيشفي بعدي الأعرج، والأبرص، والأعمى..
ومن يحيي عظام الميتين؟
من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟
من ترى يرسل للناس المطر؟
من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟
من ترى يصلبهم فوق الشجر؟
من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟
ويموتوا كالبقر؟
كلما فكرت أن أتركهم
فاضت دموعي كغمامة..
وتوكلت على الله …
وقررت أن أركب الشعب..
من الآن.. إلى يوم القيامه..
وهو أمر لاحظناه في صور القادة العرب، فرغم سنهم الكبير لم يشيبوا ولم تظهر عليهم علامات الدهر رغم الفترات الطويلة التي قضوها في الحكم، فبن علي بقي بوجهه وشعره كأنه شاب يافع، ومبارك مثله والقذافي كلهم لم تبيض رؤوسهم ولم تظهر عليهم علامات التقدم في السن، بينما حكام الدول الديموقراطية لم تعد رؤوسهم تحتفظ حتى بالشعر كاملا نتيجة الكد والعمل لمصلحة الشعب ومن أنهى منهم الولاية لا يعود مجددا إلى الحكم إلا نادرا، أما الزعيم العربي فلم يثبت التاريخ أنه قدم استقالته أو حكم ولاية واحدة وانصرف، هيهات لقد سكنهم حب الرياسة كما قال ابن خلدون.
فالزعيم العربي يعتقد أن معه كل الحق فيما يقوم به، وأن الشعب كله مخطئ وهو صائب، وأنه يعلم السر والعلن، وأن الشعب رعاع وغوغاء لا يستحق إلا القتل، وأن الشعب مصدر الفتن وكل الشرور، بينما هو مصدر الخير ورسول رب العالميين لا يستقيم شيء بدونه، وفي الأخير نختم بما ختم به نزار قباني قصيدته السيرة الذاتية لسياف عربي، ولكم الحرية للمقارنة بين ما ترونه على قنوات العالمية من تصرفات القائد العربي وبين ما يقدمه الشاعر الكبير، أكيد ستعترفون لنزار قباني بالأمانة العلمية.
أيها الناس:
أنا المسؤول عن أحلامكم إذ تحلمون..
وأنا المسؤول عن كل رغيف تأكلون
وعن الشعر الذي – من خلف ظهري – تقرؤون
فجهاز الأمن في قصري يوافيني
بأخبار العصافير .. وأخبار السنابل
ويوافيني بما يحدث في بطن الحوامل
أيها الناس: أنا سجانكم
وأنا مسجونكم.. فلتعذروني
إنني المنفى في داخل قصري
لا أرى شمسا، ولا نجما، ولا زهرة دفلى
منذ أن جئت إلى السلطة طفلا
ورجال السيرك يلتفون حولي
واحد ينفخ ناياً..
واحد يضرب طبلا
واحد يمسح جوخاً .. واحد يمسح نعلا..
منذ أن جئت إلى السلطة طفلا..
لم يقل لي مستشار القصر (كلا)
لم يقل لي وزرائي أبدا لفظة (كلا)
لم يقل لي سفرائي أبدا في الوجه (كلا)
لم تقل إحدى نسائي في سرير الحب (كلا)
إنهم قد علموني أن أرى نفسي إلها
وأرى الشعب من الشرفة رملا..
فاعذروني إن تحولت لهولاكو جديد
أنا لم أقتل لوجه القتل يوما..
إنما أقتلكم .. كي أتسلى..
رحم الله شهداء الثورات العربية.