انتظر شاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي طويلاً ومن وراء حجاب الموت لكي تتحول أنشودة الحياة واقعا جديدا لا يرتفع بعد ان استجاب القدر وانكسر القيد الذي ادمى معاصم وكرامة وحرية الشعب التونسي لمدة تفوق العقدين من الزمن.
جاء زين العابدين بن علي ذو المرجعية البوليسية الى السلطة عنوة عبر ‘انقلاب طبي’ وغادرها هاربا كما يغادر اللصوص البيت الذي نهبوه تحت جنح الظلام، بفعل ‘انقلاب دستوري’ مهدت له انتفاضة شعب عظيم وعزيز امتلك ما يكفي من المناعة والحصانة وصمد في وجه ‘المقاربة الأمنية’ لشؤونه والتي صفّقت لها باريس وواشنطن وتل أبيب وأوصت الحلفاء في المنطقة ان يسيروا على خطى ما كان يسمى بـ ‘النموذج التونسي’ بما ان الغرب اعتبر نظام زين العابدين بن علي حصناً منيعاً ضد ‘الاسلام السياسي’ ونصبوه ‘مستبدا عادلا’ كما كان عليه الحال في عصور اوروبا الكالحة والتي لم تتردد في ان تصنع من الاستبداد مرادفاً للعدل. لكن الشعب التونسي رفض ان يبقى تحت القمع والظلم والاستبداد وفجّر ثورته على يد جيل جديد من مريدي الحرية والحياة ضد رئيس زعم ان الشعب جدّد له الولاء وأعاد انتخابه بنسبة 100 في المئة من الأصوات المقرصنة، مزكّيا بذلك الوضع الشاذ لبلد حصل على استقلال مغشوش وناقص عام 1956، وانتقل من عصر ‘الرايات’ و’البايات’ والعسكر الفرنسي الى حكم العشيرة والعائلة ‘الطرابوليسية’ نسبة الى المافيا الطرابلسية، التي حولت البلاد الى مجرد ضيعة تجُود على الشعب التونسي بفتات الموائد وما تبقى من ولائم اللئام . وقد جرّب الديكتاتور كافة أصناف التناور (بعد ان مارس كافة اصناف القهر والتعذيب على التوانسة الأحرار) من اقالة مسؤولين ووزراء ‘سيادة’ وعُمِدَ بلديات، بل انه اعترف بعد فوات الأوان بشرعية الاحتجاجات وهو الديكتاتور الذي لا شرعـــية شعبية له، واعترف ضمنيا بسطوته على الشعب حين تعمد بإرجاع الحريات السلبية والانفتاح على المعارضة والسماح للصحافة والمدونين على الانترنيت بممارسة حقهم في الجهر بالحق، وهو اعتراف جاء متأخراً بعد ان أريقت دماء الشهداء وغاص النظام في وحل التعفن وحشرجات الرمق الأخير.
ولعل ديكتاتوريي المنطقة قد تطلعوا بذهول لتفاعلات ‘الحالة التونسية’، لكن اليقين يتملكني بأن الديكتاتور لا يتعلم ابداً من الديكتاتور، رغم وضوح الرؤية وبلاغة الأحداث، ولعل المستبدين الذين دخلت انظمتهم مرحلة العد العكسي قد أعابوا على بن علي ‘مرونته’ و’قلة حزمه’ في التعاطي مع ‘أحداث الشغب’ التي زعم الرئيس المطاح به انها كانت من فعل ‘عصابات’ تمارس ‘الارهاب’ وتسيرها ‘من الخارج أطراف لا تكّن الخير لبلد حريص على العمل والمثابرة’. وهنا لم يجد ‘المستبد العادل’ من مشجب سوى طاقية الاخفاء المسماة ‘نظرية المؤامرة الخارجية’ التي يتسع جلبابها وعباءتها لتحتمل كل الأباطيل و’الاجتهادات’ المخابراتية المبنية على الدّس والدسيسة. واذا كان النظام البائد قد اعتبر ان الشباب ‘الذي أراد الحياة’ هم من أصحاب السوابق فيجدر بنا ان نفتح سجل السوابق اللاعدلية للحكام وانتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الانسان من اجل متابعتهم بتهم لا حصر لها من بينها تهمة التآمر على أمن الشعوب عوض الاختفاء وراء اتهام المنتفضين بـ ‘التآمر على أمن الدولة’ فقط لكونهم طالبوا بكسرة خبز مغموسة في رحيق الحرية والكرامة. ويبقى ان الدرس التونسي البليغ سيكون مفيداً لما تبقى من عصابات مغاربية تعيث فسادا وظلما فيها منذ نصف قرن، اذا ما انتبهوا الى ان المظلات الواقية (الخارجية) مثقوبة، فلا الاستقواء بباريس وواشنطن واسرائيل يضمن لهم الخلود في الكراسي، ولا التطبيع المهين مع الكيان الصهيوني والاستعانة بثعابين المخابرات الاسرائيلية يجدي في مجال ‘شرعنة’ الانظمة لدى ما يسمى نفاقاً بـ’المجتمع الدولي’، مثالهم في ذلك مثل من يستجير من الرمضاء بالنار، اذن من يتم تسييره من الخارج؟ الشعب الذي نهض وثار ام الديكتاتور الذي هوى وسقط وفرَّ هارباً، بعد ان رفضت باريس وواشنطن استقباله؟ وهذا مصير الحاكم الظالم الذي يستقوي على شعبه بالخارج، فلا شرعية ترجى خارج الشرعية الشعبية ومنطوق صناديق الاقتراع الشفافة التي تم تزويرها بـ’كل نزاهة وشفافية’ وعلانية طيلة نصف قرن من الزمن بمباركة من دول الطغيان العالمي التي تحتفظ بالديمقراطية لشعوبها وتمنعها عن باقي شعوب الارض جمعاء.
سقط الطاغية واسترجعت تونس هويتها كوطن أخضر يزخر بورود الحرية التي كنست الى غير رجعة ورود بن علي البلاستيكية التي لا عطر ولا طعم للحرية فيها وهي موجهة لاستهلاك الدول الوصية وجحافل السياح السذج الذين كانوا يحجون الى تونس (التي حوّلها بن علي الى سجن كبير) كل صيف دون ان ينتبهوا الى ان ‘الأمن’ و’الاستقرار’ الداخلي مجرد شاشة من دخان وشجرة تخفي غابة الاستبداد.
لقد انتصرت ارادة الحياة لدى الشعب التونسي العظيم الذي اسقط اسطورة ‘المستبد العادل’ الذي خنق أنفاس شعب بأكمله لمدة تفوق 23 عاماً.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم. موافقاقرأ أكثر
Privacy & Cookies Policy
Privacy Overview
This website uses cookies to improve your experience while you navigate through the website. Out of these, the cookies that are categorized as necessary are stored on your browser as they are essential for the working of basic functionalities of the website. We also use third-party cookies that help us analyze and understand how you use this website. These cookies will be stored in your browser only with your consent. You also have the option to opt-out of these cookies. But opting out of some of these cookies may affect your browsing experience.
Necessary cookies are absolutely essential for the website to function properly. This category only includes cookies that ensures basic functionalities and security features of the website. These cookies do not store any personal information.
Any cookies that may not be particularly necessary for the website to function and is used specifically to collect user personal data via analytics, ads, other embedded contents are termed as non-necessary cookies. It is mandatory to procure user consent prior to running these cookies on your website.