نحن نعلم، وهي فرصة ربما للذي لا يعلم أن يعلم، أن أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين وكوستاريكا وفنزويلا والبيرو وغيرها مشهورة بوفرة الموز وكرنفالات الرقص والولع بكرة القدم، وأيضا بالحكام الديكتاتوريين الذين ترأسوا وبعضهم ما زال يرأس تلكم البلاد بل ومنهم من حكم البلاد حتى قضى نحبه ومنهم من ينتظر دوره.
ورغم مرور السنوات وبداية زحف تباشير وملامح فجر الديمقراطية التي انتشرت واقتربت وطلت على تلك القارة ككل، إلا أن شهرتها والطابع الملتصق بها ما زال مضرب الأمثال في الاستبداد والفساد مع تمام إيماني بأن العالم العربي شهِد ويشهد ويعرف نماذج عديدة لحكام طغوا في البلاد وجاروا على العباد، إنهم حكام ديكتاتوريون أقدح وأفضح، إلا أن قارة أمريكا الجنوبية فاقتها سمعة وصيتا وشهرة لأسباب تتعلق أولا بكثرة الحركات المتمردة والثورية التي تقوم بها شعوب تلك الدول ضد الطواغيت هناك، وأما السبب الثاني فهو انتشار أدبها وكتاباتها الثقافية المتمثلة في الروايات الرائعة والعبقرية التي كتبها مؤلفون ومبدعون شجعان وأبطال في مواجهة الجور والظلم وكشف مفاسد الاستبداد ومظالم المستبد، إلى درجة أن هذا النوع من الأدب والروايات صار جنسا أدبيا خاصا وأصبح يدرس في العالم كله بسبب هؤلاء الكتاب والروائيين؛ وهو ما أطلق عليه برواية الديكتاتور.
إلى هذه الدرجة تمكن الأدباء والكتاب من المقاومة والصمود والمواجهة بالكتابة والفضح وتعرية المستور وكشف الجور، وكانت أشهر رواية بعنوان “السيد الرئيس” لمؤلفها أسيتورياس، كما أن الروائي العالمي غابريال غارسيا ماركيز ساهم في هذه المقاومة، وخصوصا بروايته التي قال فيها إن رماد السعادة سببه الخوف من الموت، روايته الفنية الخالدة والرائعة والممتعة والعميقة بشجاعة أسلوبها “خريف البطريرك”، التي يصف فيها المستبد بأنه دكتاتور عسكري عجوز كبير في السن، يتراوح عمره بين 107 و232 سنة.
أيضا هناك رواية ماريو فارغاس يوسا، الذي فشل في الانتخابات الرئاسية بعد عودة الديمقراطية للبيرو، بعنوان “حفلة التيس”، وهي رواية تتناول موضوع مستبد آخر كان يحكم بقبضة من حديد، بل ويملك دولة تسمى جمهورية الدومينيكان دام حكمه فيها ما يزيد عن مدة ثلاثين سنة ونيف، والذي ما فتئ أن عين ابنه مشيرا في الجيش وهو طفل لم يبلغ بعد 13 سنة.
والرواية تسرد فساد واستبداد المشير كما أنها تحكي عن أصوله وفصوله وشخصه بطبيعة الحال، وقد أعدت قراءتها وغيرها حين قرأت دراسة جدا جميلة عن هذا الجنس الأدبي من الروايات في الملحق الثقافي لجريدتكم، ليفرض هنا سؤال مضن ويؤلم ويحز في النفس: لماذا لا نشهد في أدبنا المغربي خاصة، والعربي عامة، وخصوصا عند الروائيين، شيئا من فضح فساد المستبد وكشف الاستبداد المعاصر الحاكم بقبضة تارة من حديد وأخرى من حرير، بالإضافة إلى نشر وترسيخ ثقافة الزبونية والمحسوبية؟
وحده الجواب عن ذلكم السؤال ربما قد يظهر لنا غياب “المثقف” عن القضايا الجوهرية الوطنية واستبداد دولته التي نجحت في تدجين بعضهم عن طريق شرائهم بريع جائزة أو ضمان وظيفة رئاسة تحرير أو إغرائهم بمقابل مادي لنشر مقالاتهم في الجرائد والصحف أو بتعيينهم في لجان، أو ربما فقدان “المثقف” للشجاعة الإبداعية والثراء الأدبي الفني، بل وحتى السياسي، التي قد تدفعه إلى نظير هذا الإبداع المكتوب بطريقة إبداعية وأدبية تحضر فيها الموهبة والخصوبة سردا وخيالا وفنا.
أيضا تحتاج إلى شجاعة ومناعة ضد الضغوط وحصانة وتلقيح ضد الإغراء، ولعل العامل الأمني الجاثم على إبداع المواجهة والنقد والنقض والرفض وفضح الفسدة والمفسدين وتعرية الواقع، هو التحالف المتوحش بين أجهزة أمنية ومثقفين كان من ثماره انهيار وسقوط صمود وصلابة وشجاعة ومتانة “المثقف”، حتى أصبحنا نعاين ترويجا لتجارب إبداعية غامضة وحامضة ومبهمة ولا تتصل لا من قريب بوجدان القارئ-المواطن، ولا من بعيد بقضايا وهموم الوطن، بل والتباري أصبح على أشده بين “نقاد” لا قيمة لهم وبين مروجي ما يسمى بالمخدرات الإبداعية الذين يتهمون بعض الكتاب المناضلين، ولو على قلتهم طبعا، بعدم انتماءهم للإبداع والفن، بينما يصل الإبداع والفن في القارة الأمريكية ومنه إلى العالم إلى تراث عالمي فريد ونادر وقيم ورائع.
أخيرا، حين يختبئ خوف وجبن المثقف وسائر المشتغلين في مجال الإبداع والفن خلف أشكال وأجناس فنية وإبداعية خائنة ليس فقط لما يجري في فضاء القراء الافتراضي والواقعي، بل وقيم الحرية والإنسان، وبات الشيء الأوحد حاليا الذي يسود ويتسيد الصدارة على الساحة الثقافية، هو السب والسباب والتسيب، إبداع وفن الرداءة!
الإنسانية هي الحل.