بقلم: عبد الحكيم برنوص
إنهم يسرقون البلاد العربية، بلدا تلو الآخر، ويُستنفد الرؤساء العرب، مشدوخا أو مطرودا أو مشنوقا أو مخلوعا… فليأخذوا دورهم في الطابور، وينتظروا ويتربصوا إنهم متربصون. هذه وظيفتهم، ولأجلها خُلقوا، “خلقوا ليفترسوكم” ويغرزوا الصلبان في جماجمكم، سيأكلونكم واحدا واحدا، لا يهم اللون، ثور أسود أم أحمر أم أبيض، سيسلخون جلودكم وأنتم تنظرون.
إنها الفجيعة العربية، واحدة من أروع فصول التاريخ تراجيدية، شعوب تُقهر وتُجلد، وحكام يُنسون كأن لم يكونوا، يمضغون الكلام، ويطحنون الطحين، ولا يبارحون قاعة الانتظار الفسيحة.
يأتي قرار الكاوبوي الأمريكي ليسفه أحلام العرب، وليَخِزهم وليُخزيهم، لعلهم يفيقون، وليضع لبنة أساسا ضمن مشروع صهيوني قديم، سطره الأولون.
ما يحدث اليوم، مجرد خطوة صغيرة، مقدمة لخطوات أشرس وأشد تنكيلا، تستهدف مسح هذا الخليط المبتوت في البلاد المسماة بلاد العرب، وتفجيره وزلزلته من الداخل. فلا تخفى على أحد الأيادي الممتدة لتنفيذ هذه النوايا المبيتة منذ مئة عام أو يزيد.
كل الضربات مباحة، والقذر منها تخصيصا، يحاصرون اقتصادا، وينثرون أبخرة السموم الطائفية، ويحيون فخاخ الاستعمار القديمة، يزرعون الفتنة ويمكرون بالليل والنهار، ويستفردون بالقصي، يعزلونه، ويمنونه بالوهم والسراب. مصّوا النفط بالأمس واليوم يهرقون الدماء ويخربون البيوت (العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان… وفلسطين المبعثرة) العرب اليوم، أما مفترق التاريخ، إما البقاء وإما الانمحاء.
قبل أسبوع ارتعدت فرائص العرب تخويفا من إيران، وصواريخها العابرة للعواصم العربية، قبل أن يُفاجؤوا (هل فوجئوا حقا!) بالأب الأمريكي ينفذ وعد أبنائه الإسرائيليين. إن الحقيقة ساطعة سطوع إقامة دولة “إسرائيل”، بعد مئة سنة، يرد الكاوبوي الأمريكي التحية بأحسن منها، لأجل ذلك انتخبوه.
وستتعالى صيحات الاستنكار والرفض، فالغضب الساطع آت، والحناجر ستصدح في وجه كل أفّاك وكل متواطئ بكلمة لا. وهل يملك الإنسان شيئا أقوى من إنسانيته التي ترفض الخنوع والتواطؤ والمذلة.
ما حدث أمر جلل، ووقيعة عظيمة يشيب لها التاريخ، هل يمكن تصور فلسطين من غير القدس؟ ماذا تبقى لكم أيها العرب وأيها المسلمون، لمّا تُصادر قبلتكم الأولى، ولما يُمنع الأذان في مسجد الإسراء؟
ما يلزم اليوم انتفاضة عربية، يُسمع صداها في العالم بأسره، انتفاضة هي الطلقة الأخيرة، انتفاضة الوعي الصحيح، الوعي بحقيقة الصراع مع الآخر، الآخر الذي يجّد في بناء الترسانات النووية والعلمية والاقتصادية، كما يجّد في تزوير التاريخ وتغليف الاستعمار القديم بآخر جديد مموّه.
لقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وهذه “بصمة بالعشرة” على مسار خادع موهوم، سمّوه ظلما مسار السلام، والسلام منه بريء. إن الأمر يقتضي مواجهة حقيقية مع النفس، حول الوجود، حول الفعل في التاريخ، إنهم يربطون وجودهم بانمحائنا، هكذا يفكرون، وهذا ما تدلّ عليه أفعالهم، ويغلفون ذلك كله بالمصافحات الزائفة، والبكاء بين يدي الأمم المتحدة.
هذا امتحاننا الأكبر، وابتلاؤنا الذي طالما رغنا عنه لواذا، نمني النفس بالأمل الكاذب الخادع، هؤلاء أقوام لا تُقيم لنا وزنا (انظروا كيف كان الكاوبوي الأمريكي يعرض توقيعه مزهوا أمام الحضور والعالم) وتمرغ أنوفنا في التراب في اليوم والليلة.