محمد أمزيان
“محاكمات” الجامعة، شهدنا بعضا من أطوارها الغريبة حينما كنا طلبة. إنها أشنع وأقذر ما يمكن أن يتعرض له الإنسان في حياته. لا حق للمتهَم في الدفاع عن نفسه ولا أن يناقش المتهِمَ في حججه ولا أن يطالبه بالدليل. كالميت الحي (أو الحي الميت) ينتظر الحكم المنزل، القاطع كالسيف الحاد، قبل أن يقوم الجلاوزة بالتنفيذ الصارم بلا شفقة، بينما صفوف من الطلبة الخانعين لحكم الرفيق الأعلى، يجلدون الضحية بالشعارات المُنزَلات. البغدادي وأتباعه يفعلون الشيء ذاته فوق أرض خلافته بلا حسيب أو رقيب. البغدادي يقتل ويبدع في أساليب التنكيل بالجسد. “جلادو” شيماء يقتلون أيضا، يقتلون أعز ما في الإنسان: إنسانيته.
ليس كل من ينتمون لفصيل “البرنامج المرحلي” جلادين، بل أكاد أجزم أن فيهم مناضلون عقلاء، استهجنوا سلوك رفاقهم “القضاة” وتبرأوا منه في سرهم، تماما مثلما كان البعض منا يفعل في زمننا الجامعي حينما كنا نمشي خلف “جنازة” الضحية ونحن صامتون. لم يكن في مقدور من يعارض قضاء “الرفاق” وقدرهم أن يطعن في نزاهته أو يبدي مجرد نقد رفاقي تجاهه. فسلاح “الرجعية” و”المخزنة” و”الخيانة” و”الجوسسة” وما إلى ذلك من توصيفات، كانت دائما جاهزة للردع وقطع الطريق أمام الصوت المعارض. من حسن الحظ أن صفحات التواصل الاجتماعي في هذا الزمن الافتراضي، فتحت أمام الصامتين حتى من داخل هذا الفصيل، نوافذ يتنفسون منها دون أن يخشوا من ملاحقة أومتابعة أوبهدلة أمام أقرانهم في ساحات الحرم الجامعي.
مقارنتي لحكم هذا النوع من المناضلين بأحكام البغدادي، ليست لكونهم ينتمون لنفس نبع القتل والتنكيل واحتقار كرامة الإنسان، وإنما لسلوكياتهم البشعة في حق “معارضيهم” و”ضحاياهم”. فالفريقان، وإن تشابها في البشاعة، يقفان على طرفي نقيض من بعضهما البعض، بل يقفان في أقصى التضاد، وهذا ما يجعل فكرهما متطرفا (كل من زاويته المنغلقة على نفسها) وسلوكهما نشازا، مقارنة بالأغلبية (الجماهير) التي تتعاطف مع أي منهما أو تسكت، راضية أو مرغمة، عن أفعالهما.
لنفترض أن شيماء اقترفت ذنب “التجسس” على الرفاق، فهل يحق لهذا الفصيل أو لغيره أن يحاكم فتاة اضطرتها ظروفها للعمل نادلة في مقصف الجامعة، بينما مكانها الصحيح والمنطقي كان بجانبهم في قاعة الدرس وتحصيل المعرفة، ثم يأتي هؤلاء ليقصفوا حياتها بحكمهم الذي لا يمكن تبريره حتى ولو اجتمع الإنس والجن؟ متى كانت محاربة “الدعارة” (التهمة الثانية) واجبا طلابيا يقومون به بدل الجهات المعنية؟ أهم أوصياء على أخلاق الناس؟ ألا تعطي هذه التصرفات مبررات إضافية للسلطة الأمنية كي ُتحكم قبضتها أكثر على الجامعة وتخنق أجواء الحرية فيها؟ أم أن فرض الأمن، بالطرق التي تبتغيها السلطة التي يدعون مناهضتها، أصبح أكثر من مطلب لوضع حد لظاهرة التسيب التي أضحى عدد من الجامعات المغربية يعاني منها؟
الجامعة المغربية مريضة، وقد طال مرضها حتى شل قدراتها على الابتكار والمنافسة ونشر ثقافة التسامح والاختلاف والقبول بالآخر. من يستفيد من هذا الانهيار والفلتان والعُقم المزمن؟ ليس طالب العلم على كل حال. شعر شيماء سينمو وتنمو حواجبها، إلا أن شيئا في داخلها قد انكسر ومات إلى الأبد، مثلما ماتت أشياء كثيرة في مؤسساتنا التعليمية حتى أمست تخرج أفواجا من المتطرفين مالكي الحقيقة المطلقة. لا تسأل عن الحوار في جامعاتنا، فقد تيتم بعدما رحل العقلاء عنها أو تواروا خلف خيباتهم، تاركين الساحة للأعلى صوتا وسوطا. أيها اليساريون، أنقذوا يساركم من الغوغاء. ذنب شيماء أنها كادحة حتى ولو كانت جاسوسة أو عاهرة.