في مدينة كولن الألمانية، تلقت هينرييته ريكر، التي فازت في الانتخابات بمقعد العمدة، طعنة بخنجر أُدخلت على إثرها إلى المستشفى. في مدينة روتردام الهولندية، تعرض عمدتها أحمد أبو طالب لوابل من الشتائم من قبل مواطنين غاضبين. في استقراء الرأي العام الأسبوعي، ظهر أن حزب الحرية الشعبوي لزعيمه خيرت فيلدرز قد يحصل على أكثر من ثلاثين مقعدا لو أجريت الانتخابات التشريعية الآن. في فرنسا، اتهم رئيسها فرانسوا أولاند خصومه السياسيين بالترويج لأرقام مغشوشة لزرع الخوف في النفوس؛ فما الذي يجمع بين هذه العينة من الأحداث المتفرقة؟
ما يجمع بينها هو خيط رفيع يفصل مأساة اللاجئين القادمين من مناطق الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية، عن تراجيديا السياسة الأوربية «الواقعية» التي لا تخلو من حسابات الربح والخسارة. ومادمنا أتينا على ذكر الربح، فلا حرج في أن نشير إلى ما جنته تركيا من أموال وامتيازات. تركيا عرفت كيف تفاوض وكيف تجعل القادة الأوربيين يذعنون بسرعة البرق…
ففي غضون الأسبوع المنصرم، توصلت دول الاتحاد الأوربي، المجتمعة في بروكسيل، إلى اتفاق مبدئي مع تركيا يقضي بمساعدتها على إيواء مزيد من اللاجئين السوريين فوق أراضيها وقرب حدودها مع سوريا. إلا أن تركيا، التي خبرت العقلية الأوربية عن تجربة، تمكنت من «استغلال» قضية تدفق اللاجئين على بلدان أوربا برا عبر رومانيا وكرواتيا والتشيك أو عبر البحر المتوسط واليونان، لتطلب ما تشاء. حصلت تركيا، دون عناء، على ثلاثة مليارات من اليورو نقدا، فضلا عن إلغاء العمل بتأشيرة دخول الموطنين الأتراك إلى دول الاتحاد الأوربي، زيادة على تسريع مباحثات احتمال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وهو مبتغى بعيد المنال على المديين القريب والمتوسط على الأقل. حتى الرئيس التركي إردوغان فوجئ بسرعة قبول الزعماء الأوربيين لسلة المطالب التركية، ولو كان طلب أكثر لحصل عليه دون نقاش. الساسة الأوربيون على استعداد للدفع مقابل الحفاظ على وزنهم الانتخابي، هذا هو واقع الحال… فبعد «حرارة» الاستقبال حلَّ «صقيع» الواقعية السياسية.
رئيس الحكومة الهولندية مارك روته، الذي يرى كيف «يلجأ» أتباعه بالمئات إلى الحزب المنافس، حزب الحرية، أوضح للرأي العام أن إعادة نشر اللاجئين السوريين على الحدود التركية لا بد لها من ثمن. كل القادة الأوربيين وافقوا على السداد.
هل تخلت أوربا عن وجهها «الإنساني» وعادت إلى حقيقتها القائمة على معاداة كل ما هو غريب؟ لا أعتقد أن أوربا فقدت إنسانيتها، إلا أن حكوماتها وجدت نفسها أمام مأساة فاقت كل حساباتها؛ فألمانيا، التي رحبت على لسان زعيمتها القوية أنجيلا ميركل باللاجئين وردت بما يليق من حزم على المعارضين، عادت لتخفف من لهجة الترحيب وتسوق خطابا وسطيا يرضي المرحبين ولا يغضب المعارضين. كما أبدى عددٌ من الحكومات الأوربية «تفهما» لقلق مواطنيه وغضبهم وخروجهم للاحتجاج الذي بلغ في بعض الحالات مستوى المواجهات بين الشرطة والمحتجين، مثلما حدث في بلدة «أورانيه» الصغيرة الواقعة في شمال البلاد، والتي ارتأت السلطات إيواء عدد من اللاجئين بها يفوق عدد سكانها! زعيم الحزب الاشتراكي إيميل رومر (معارضة) اتهم الحزب الليبرالي الحاكم بتعمد إرسال اللاجئين إلى هذه القرية الصغيرة بهدف خلق نقاش يؤدي إلى مزيد من الإجراءات المشددة ذات الصلة بالهجرة واللجوء.
وفي تعليق له بعد أن تعرض للشتم، تمنى أحمد أبو طالب لو يعتذر الشاتمون عن فعلتهم. في كولن الألمانية، أوقف خصوم هيرنييته ريكر حملتهم الانتخابية. ومن أستراليا حيث يقوم خيرت فيلدز بزيارة عمل، حث هذا الأخير أتباعه، في تغريدة، على مواصلة «المقاومة»… مقاومة «تسونامي» اللاجئين، على حد وصفه.