مجرد آهة بقعة حبر : هل أطفالنا دمى مشفرة ؟
ما زال يجذبني حنين نحو ماض بعيد ، كلما شاهدت أطفالا بعمر الورود منزوين في عالم صنعوه بأيديهم .عالم خاص بهم ، الأشياء فيه لا تتحرك الا بإشارات ” الريموت كونترول” وبالأصوات احيانا .. بل أن هناك من الأشياء من تشتغل فقط باللمس . خفيفة في وزنها ، من رقمية وسطحية ولمسية و لوحية ، يتم تكييفها بسهولة واستعمالها كثيرا ما يترافق “بانحناء” في الظهر كما في الرأس والعنق . وأما “عالم الأزرار” في عالمهم الجديد ، فهو فعلا عالم آخر .يكفي الضغط على زر من تلك الأزرار ليسافروا بعد ذلك الى عوالم أخرى بعيدة .
تراهم يلاعبون ميسي ورونالدو في اسبانيا .. يقاتلون “العمالقة والضفادع ” في أدغال أفريقيا، ويحاربون أدولف هتلر بل ويتغلبون عليه في ألمانيا .. يسافرون إلى الهند والصين واليابان ، بل وقد يجمعهم عشاء فاخر مع أجمل حسناوات العالم في مكان ما ، قبل أن يستريحوا للحظات في “المزرعة السعيدة” ويتذوقون اطباق “المطبخ العالمي”.!!
أصدقائهم يعدون بالآلاف (الإفتراضيون طبعاً) يسافرون معا الى “المزرعة السعيدة ” ليشتغلوا ويفلحوا في حقول ليست لهم .. يحاولون جاهدين أن يرفعوا الأرقام عاليا..يتنافسون على تقشير البصل وتقطيع البطاطس .. يتركونها لساعات ثم يعودون لجني وحصد ما زرعوه او ليقدموا الشراب و الطعام لزبائن المقهى والتي هي الأخرى ليست لهم .
هو عالم فريد يعزلهم تماما عن محيطهم وينقلهم بكل جوارحهم الى عوالم اخرى بعيدة ، يسافرون ، يطيرون ، يقاتلون ، يثورون ، يغضبون ، يتحدون ، ينتصرون ، ينهزمون ، يحزنون ، يخافون ، يسعدون … ثم بعد ذلك كله ، ينتهي كل شيء كما بدأ وتزول المتعة تماماً وكأنها لم تكن أبدا..فيعودون من ذاك الخيال المرئي المحسوس وطبعا الغير الملموس.
يعيشون حياتين مختلفتين في عالمين مختلفين تماما .. وطبعا من دون أن يكونوا “شيزوفرينيين “..مرضى نفسيين يعانون انفصاماً في الشخصية .تراهم يمارسون حياتهم العادية جدا.. يتجولون .. يتسوقون .. يذهبون إلى المدرسة وفي نفس الوقت تراهم يتواصلون مع عالمهم “الافتراضي” حيث أصدقائهم “الافتراضيون” بل وكذلك أُسرهم “الافتراضية”!!.
هذا هو بعضا من عالم أطفالنا .. وأنا أتأمله عن بعد .أنزوي في ذاكرة طفولتي ، احتضن قلبي بين ذراعيّ .. وكأني أحتضنهم واحدا وحدا. أنظر اليهم .أتخيلهم ، أراهم مسجونين .. فليس على المرء بالضرورة أن يعيش داخل جدران سجنٍ ليكون سجيناً .. ففي عالم أطفالنا جميعنا مسجونون بشكل أو بآخر ، سجناء شبكات تدعى”عنكبوتية” و أجهزة أخرى تدعى “إلكترونية” مزوّدة بأحدث الألعاب.. و”أنظمة” أخرى تُدعى.. الآيباد والبلاك بري والبلاي ستايشن والآيفون، وألعاب الليزر..الخ
أتخيلهم دمى مشفرة تشفيرا إيليكترونيا .. مغلقين داخل عالم خاص يسجنهم من دون حتى أن يفسح لهم متسع لإبداع ذاتي أوابتكار شخصي أو حتى تعبير مستقل .على الرغم من فوائده العديدة التي يحملها لنا في مجالات أخرى عدة.
أجدني دون ان احس ، أهرب إلى طفولتي ، عبر دهاليز و سراديب زمن جميل هنالك حيث أحلامنا وردية وجميلة كانت .
لا زالت تسكنني رائحة المداد وأقلام الرصاص وألوان الطباشير وحقائب الأدوات وأجراس المدارس وألوان الخشيبات التي كانت تشبه أجسامنا وطراوة الممحاة التي كانت توقض شهية العضِّ فينا ..
(السندباد) و(كابتن ماجد) و(المنزل الصغير) و(غرندايزر) و(جزيرة الكنز) و..و.. مسلسلات كرتونية سرقت قلوبنا وشكلت جزءاً من عالمنا الطفولي الحالم . وإن كنت اليوم ، أستغرب .. ولا زلت لم أفهم بعد كيف كانت هذه المسلسلات تأتينا أوقاتها مع واجباتنا المدرسية!!!.
هي تفاصيل ذكريات تجر بعضها بعضا كحلقات سلسلة طويلة لم تُكتب نهايتها بعد .لا أدري لماذا أتذكرها اللحظة ، أهو فعلا حنين لطفولة ما عشناها ؟ أم رغبة داخلية غير معلنة في جعل هؤلاء الأطفال يحتمون بزمن يشبه زمن طفولتنا .. زمن الأمن والأمان .
ولأكون صادقا و واضحا ومنصفا أكثر ، اعترف أنه حلم وأمل ورغبة في ان يعيش هؤلاء الأطفال بعيدا عن هذا العالم وما يحمله عن كوابيس الإنفجارات وأشلاء الموتى وحكايات أطفال آخرين في أماكن أخرى بعيدة وقريبة .. و ما تحمله حكايات أخرى عن ثمرات أكباد أمهات تُقطف وتُقتل أوتُحرق بلا ذنب أو خطيئة ! .. في زمن الكل فيه اصبح” جمهور” يتفرج .. في زمن فيه الشرفاء هم من يُتهمون والخونة هم من يرأسون.
حلم وأمل ورغبة في العودة بأطفالنا إلى زمن النقاء ولو للحظات. بعيدا عن صخب وضجيج وشظايا التراشق .. شظايا شبكات هذه الأمراض ( عفوا) هذه المواقع الإلكترونية والمدونات والبوابات والنوافذ والمنافذ الشخصية من غرف المحادثة و”الدردشة ” وشبكات التواصل الإجتماعية من تويتر وفيس بوك .. وهلم جراً و’ تشبيكا ‘ و تغريدا .
رغبة في السفر عن زمن اصبحت لا أطيقه .. إلى زمن أحبه ، يعيد إليَّ المشهد كاملا .
كنا أطفالا نلعب ونسابق الرياح .. كنا نلعب مع بعضنا وليس على بعضنا. كان حيٌّ واحد يجمعنا وكأننا أبناء بيت واحد كنا ، ننتسب إلى الفطرة وفرح الطفولة .. لم يكن يُفرق بيننا شيء.. حين كنا ندقّ أبواب أهالي حيناً ونهرب ، وحين كان يباغتنا أحدا من أهالينا. كنا لا نشير بالأصابع خلسة الى من كان ” الطارق”..لم نكن “نبيع” أحدا منا و لم نكن “نُشَكِّمُ” على أحداً .. كنا فقط نكتفي بقهقهات طفولية تكبرنا ثم نتطاير بعد ذلك لنختفي هنا وهناك كأوراق الخريف حين تهب عليها الرياح..
هكذا كان عالمنا الصغير وكانت طفولتنا .. عالم بديع كان يتحرر من قيود وحسابات الكبار، كانت تأخذنا خطواتنا الصغيرة إلى اكتشاف أشياء جديدة ، كانت تتفجرفينا الطاقات وتكبر فينا الخبرات من روافد ثقافتنا الأبدية :” البيت والحي و الشارع” .
ومن المؤلم الآن أن نجد أطفالنا مسجونين داخل عالم “الشبكات العنكبوتية” وألعاب “الآيباد والبلاي ستايشن”.
أعترف أنه يبدوا عالما جميلا ومغريا ..جدا جدا . ولكني في نفس الآن أتخيلهم دُمى مشفرة تشفيرا إيلكترونيا .. وكأنهم مُبرمجين و من دون الإفساح لمجال التعبير أو الابتكار أو الإبداع الذاتي.
أتذكر حين سألني صديق إبني ذات مرة … حين دعاني لأشاركه وابني وابنتي لعبة “البلاي ستايسن”:
الا تحب هذه الألعاب ؟
أجبته حينذاك : انها ليست مجرد العاب … إنها آفة تعرف جيدا كيف تحد من نمو حميميتنا و باستمرار.. أسواءً تجاه أنفسنا أوتجاه هذا الكون الذي نحن منه.
فقال لي مستغربا : الحقيقة أنها ألعاب تجعلنا أجمل وأكثر انسانية..
فقلت له : بل تجعلنا أقرب للمادية من الجماد ذاته..
قاطعني بسرعة ودون حتى أن أنهي كلامي : ولكن غاب عنك أن لهذه الأجهزة فوائد أخرى اكبر واكثر من سلبياتها.
ابتسمت له قائلا: صحيح .. وهذا إن استُغلت بشكل آخر ايجابي .. في التوجيه وتنمية الإدراك العقلي ، وعلينا أن نفهم وندرك جيدا كيف نستغل هذه الأجهزة بالإيجاب ، أن نخلق جوا آخر لهذه الألعاب يكون توجيهيا وتوعويا أكثر. قاطعني مرة أخرى وكأنه اراد أن يختم معي الحديث مبتسما: ألا تحبها؟
ابتسمت له أنا الآخر مستدركا :فمن قال أننى لا احبها ؟!..أنا أيضا مثلك “أحبها” ، ولكن ليس لحد الإدمان ، أحب أن استغلها وليس أن تستغلني.. أن أملكها وليس أن تملكني .. هكذا تكون الصيغة الأصلح.
صمتَ طويلا هذه المرة ، رن جرس هاتفه المحمول فجأة قاطعا صمته ..أعاد بعد ذلك اللعبة إلى نقطة البداية.. وقبل أن نبدأ اللعب.. قال:
اخشى أنا الآخر من إدمانها حتى . . الغباء .
محمد بوتخريط / هولندا .
بسم الله الرحمن الرحيم
من المجحف المرور بمقال كهذا دون كتابة شيء ,,, والمجحف أكثر أنه لا شيء
لدي يليق بك ,,, فكل الامتياز لك ,,, صمت مطبق ,,,, نص رائع جداً ,,, متقن
السبك بل هو سبيكة ذهب ,,, حياك الله يامحمد وتحية تشبهك ,,, ودمت رائعاً
مقال جيد جيدا ، هو يقينا عتبة لبحث اطول واعمق ، يحط الاصبع الصحيح على ما يحزننا جميعا في فلذات الاكباد ، يشير بالدقة الى آفة لا تخلو منها حياة أي أب . الاستاذ محمد بوثخريط كما نعرف غيرتك على كل ما يخصنا ، نريد ان نشكرك من كل الاعماق ،ونريد ان نقول لك بورك عقلك المفكر عميقا ،وبورك قلبك الغيور من اجلنا ، وبورك قلمك الرائع هذا الذي لا يتعب ابدا . دمت راقيا ومحبا وعزيزا.
أجبته حينذاك : انها ليست مجرد العاب … إنها آفة تعرف جيدا كيف تحد من نمو حميميتنا و باستمرار.. أسواءً تجاه أنفسنا أوتجاه هذا الكون الذي نحن منه.
انك تنفذ كالطفل الى تلك المخازن التي شددت الايام أقفالها.ترد علينا من تلك الحميمية بعضا مما افسدت البلاي وبعضا مما افسد الدهر.
ادرك حرقتك واحياها.واصد كثيرا عن المرآة حتى اعود دوما الى ضلالي القديم…
شكرا ايها الاديب الحي..
مساء الخير إن كان مساءا .. صباح الخير إن كان صباحا ..
تحياتي ايها الجميلون .. رماد إنسان . كنوف والبدوي..
شكرا على إطلالتكم الجميلة ..وكلامكم المشجع..
فعلا.. أسعدتموني بمروركم..
شكرا.